إفريقيا مهددة باستيراد «النموذج الأفغاني»

إفريقيا مهددة باستيراد «النموذج الأفغاني»
في إفريقيا هياكل التنظيمات حديثة النشأة سهلة الانشقاق والتفكك مقارنة بطالبان.
إفريقيا مهددة باستيراد «النموذج الأفغاني»
رئيس نيجيريا محمد بخاري نبه إلى خطورة قرار التخلي عن دعم الحكومات الإفريقية.

بعد عقدين من الوجود الأمريكي في أفغانستان، ارتد الوضع بشكل عكسي فجأة، فعادت البلاد إلى زمن ما قبل عام 2001، بعد سيطرة حركة طالبان على مفاصل "الدولة"، بسرعة قياسية فاقت كل التوقعات، باعتراف الرئيس جو بايدن. وسقط الوعد الأمريكي بتتويج التدخل العسكري بإقامة دولة مؤسسات في أفغانستان، قوامها التداول السلمي، وفق آليات ديمقراطية، على السلطة في الدولة.
أربكت عودة طالبان حسابات المشهد داخل أفغانستان، على الرغم من توالي المؤشرات التي توحي بأن طالبان اليوم غير طالبان الأمس، فخلال 20 عاما، تغيرت أشياء كثيرة داخل الحركة بصفة خاصة، وفي أفغانستان بوجه عام. كما أربكت معطيات الخريطة الإقليمية، فدول عدة أخذها الحدث على حين غرة، فيما تحولت المسألة الأفغانية إلى ورقة ثمينة في يد قوى إقليمية ودولية، قابلة للتوظيف حماية لمصالحها، كما كانت الحال مع قضايا سابقة "سورية، ليبيا، اليمن...".
وخلخل الانهيار السريع للدولة هناك حسابات الرئيس الأمريكي جو بايدن، ولا سيما بعد انقلاب لحظة خروج أريد تقديمها في شكل "انتصار" للأمريكيين إلى كارثة انتهت بمقتل 13 جنديا أمريكيا، ما أظهر الرئيس في حالة ضعف غير مسبوقة، إذ لم يجد الكلمات المناسبة لاختتام المؤتمر الصحافي، سوى تأكيد ضرورة الانسحاب "سيداتي سادتي، حان الوقت لوضع حد لـ20 عاما من الحرب".
ويبقى الوقع الأكبر لما جرى في أفغانستان في الدول التي تعاني ويلات التطرف، فالسيناريو الأفغاني تحول إلى نموذج قابل للاستيراد والتطبيق، بالنسبة إلى قادة وزعماء كثير من التنظيمات المتطرفة، في دول إفريقيا جنوب الصحراء، وحتى في دول عربية. فما رافق الرحيل الأمريكي من مشاهد مروعة، مثل دفعة قوية لهذه الحركات، للعزم على استنساخ التجربة، وبسط السيطرة والنفوذ على أنظمة الحكم في "الدول"، أو بالأحرى أشباه الدول، التي توجد على أراضيها.

إفريقيا وشبح السيناريو الأفغاني

سقطت كابول، فسارع قادة أفارقة إلى التحذير من تكرار السيناريو ذاته في غرب إفريقيا، تحديدا منطقة الساحل الإفريقي. فقد طالب رئيس نيجيريا محمد بخاري في مقال له في إحدى الصحف البريطانية بشراكة شاملة مع الدول الغربية، ونبه إلى خطورة قرار التخلي عن دعم الحكومات الإفريقية، في مواجهة جماعات تتقاسم مع طالبان الأيديولوجيا نفسها، وتسير على هديها الآن لبلوغ الأهداف ذاتها.
تنشط في منطقة الساحل عدة تنظيمات مصنفة دوليا كمنظمات إرهابية، من أبرزها تنظيم "الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى" الذي تأسس 2015، وتمتد أنشطته في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو، إلى جانب حركة "بوكو حرام" التي صارت "الدولة الإسلامية-ولاية غرب إفريقيا"، التي تنشط في نيجيريا والكاميرون وتشاد والنيجر، إضافة إلى جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" التي تشكلت نتيجة تحالف "أنصار الدين" مع "جماعة المرابطين" و"جماعة تحرير ماسينا"، وبايعت "تنظيم القاعدة في الساحل الإفريقي".
في المقابل، تعيش دول منطقة الساحل تحولات سياسية صعبة، تزيد من تأزيم الوضع المأزوم أصلا، ففي تشاد قتل الرئيس إدريس ديبي، قبل أربعة أشهر، على جبهات القتال مع المتمردين، وشهرت مالي ثاني انقلاب عسكري خلال أشهر، حتى قيل إن الجيش ترك الجبهات في شمال ووسط البلاد للجماعات المسلحة، وانغمس في أتون الصراع السياسي في مواجهة الأحزاب والقوى المعارضة، وكان الانقلاب على وشك النجاح في النيجر، قبيل تسليم السلطة إلى الرئيس المنتخب محمد بوزوم.
الأوضاع في بقية دول الساحل ليست أفضل حالا، فالشروخ في أوساط رجال السياسة في تزايد مستمر، والصراع محتدم بين قادة الجيش، بحثا عن فرص للهيمنة والاستحواذ. وتبقى التنمية الغائب الأكبر في المشهد في منطقة الساحل، فالتنافس في دوائر السلطة أبعد من دائرة اهتمام مطالب الشعوب بإصلاحات سياسية حقيقية، تكفل تحقيق العدالة الاجتماعية، وتضمن حدا أدنى من الخدمات الأساسية التي تمنح الشرعية للدولة.
لكل ذلك، لم يعط التدخل العسكري الفرنسي لدعم ومساعدة دول الساحل في حربها ضد الجماعات المسلحة المنتشرة في المنطقة أي ثمار له على أرض الواقع. فبعد سبعة أعوام من الوجود ميدانيا، لم تتمكن الجيوش من تغيير الشيء الكثير في المعادلة على الأرض، قبل أن تشرع فرنسا في الانسحاب، بدعوى تغيير استراتيجية عملية "برخان"، وإعادة تنظيم عناصرها في المنطقة، مع الاعتماد بشكل أكبر على الشركاء المحليين، حتى يكون التدخل أكثر فاعلية ونجاعة.

فوارق تبطل استيراد النموذج

الفشل الفرنسي في تطهير منطقة الساحل، بعد أعوام من المعارك الضارية، وفشل أغلب دول الساحل في اكتساب شرعية شعبية، بالاعتماد على لغة الفعل والإنجاز، يجعلان إعادة السيناريو الأفغاني، في نظر عديد من المراقبين، مسألة وقت فقط، ولا سيما تلك "أشباه الدول" التي تشهد انهيارا في هياكلها ومؤسساتها. فيما يستعبد آخرون تحقق هذه الإمكانية في إفريقيا، نظرا إلى الفوارق الشاسعة بين المسألتين.
تعد خطط الهيمنة جزءا أصيلا في مشروع هذه التنظيمات، فالمغزى من وراء القتال هو بلوغ الحكم وبسط السيطرة لإقامة الإمارة أو الخلافة. وقد سبق لتنظيم القاعدة في منطقة الساحل أن أعلن عقب سيطرته على شمال مالي 2012 قيام دولة مستقلة هناك، وكان الحدث سببا مباشرا للتدخل الفرنسي. يؤكد هذا المعطى حضور فكرة "الدولة"، في أدبيات القوى المتطرفة في القارة السمراء، ويحذر من إحياء الفكرة، وعودة الاهتمام بها، بعد الفشل الأمريكي في أفغانستان.
مهما بلغت درجة الاهتمام باستيراد النموذج الأفغاني، تبقى نسب نجاحه في إفريقيا ضعيفة، نظرا إلى اشتباك معطيات التاريخ بالجغرافيا، وتداخل العرقي مع القبلي، علاوة على البون الشاسع في بناء تنظيم حركة طالبان بتاريخها الطويل، مقارنة بهياكل تنظيمات حديثة النشأة في إفريقيا، سهلة الانشقاق والتفكك مع أبسط خلاف. علاوة على معطيات السياق الإقليمي، فالبلدان المجاورة لدول إفريقيا جنوب الصحراء لا ترمي إلى أهداف جيران أفغانستان.
تختلف حركة طالبان عن تنظيمات منطقة الساحل في أكثر من وجه، فمقاتلوها يناهزون 75 ألف مقاتل، فيما لا يتعدى أعضاء باقي الحركات في إفريقيا آلاف المقاتلين. وتتفوق الحركة في الخبرة والتجربة، فجذورها تعود إلى أواخر السبعينيات مع "تنظيم المجاهدين" و"حزب خالص الإسلامي"، بينما عمر أكبر التنظيمات المتطرفة في إفريقيا لا يتعدى عقدين من الزمن. وتغيب الحاضنة الاجتماعية لدى التنظيمات في إفريقيا، نتيجة إمعانها في القتل بشكل وحشي وتهريب في الحواضر والقرى، عكس حركة طالبان التي تحرص على تلافي الاصطدام مع المدنيين، ما ساعدها على توسيع الحاضنة الاجتماعية.
ويظل فارق الموقع الجغرافي عاملا مهما في المسألتين، فبجوار أفغانستان دول لها يد فيما يقع داخل الدولة، وتحرص على التدخل لتوجيه الوضع إلى ما فيه مصلحتها "إيران مثلا". فيما وضع الدول المجاورة لمنطقة الساحل مغاير تماما، فجميع الدول بدون استثناء تبحث عن استقرار المنطقة، لأنها تدرك جيدا تكلفة اللا استقرار في منطقة مترامية الأطراف، تصعب مراقبتها، وتعي ثمن ذلك سياسيا واقتصاديا وعسكريا.

الأكثر قراءة