انقلابات إفريقيا .. ضغط داخلي أم إيعاز خارجي

انقلابات إفريقيا .. ضغط داخلي أم إيعاز خارجي
ظل متوسط المحاولات الانقلابية ثابتا بمعدل 4 محاولات سنوية.
انقلابات إفريقيا .. ضغط داخلي أم إيعاز خارجي
هل دخلت القارة مرحلة جديدة من الصراع بين القوى الكبرى؟

عادت ظاهرة الانقلابات العسكرية إلى الواجهة في القارة السمراء، حتى باتت تهمة "قارة الانقلابات" - التي لاحقت الدول الإفريقية خلال عقود ما بعد الاستقلال، بسبب تكرار تغيير السلطة بالقوة، من قبل ضباط الجيش، ووأد التجارب الديمقراطية في أكثر من دولة - تلوح في الأفق، بعد توالي وقائع تغيير الأنظمة السياسية بالإكراه والقوة، بعيدا عن صناديق الاقتراع والإرادة الشعبية.
تكاد الشعوب الإفريقية تطمئن إلى القطيعة مع الانقلابات، بتواري استخدام العنف للوصول إلى السلطة، حتى تنتعش ثكنات الجيوش معلنة، بسخرية سوداء، إحياء الظاهرة من جديد، بالانقضاض على التداول السلمي للسلطة في دولها. عادة ما يكون المعطى الداخلي ممهدا لخطوة هيمنة العسكر على الحياة العامة، باستغلال فواعل الاحتقان الداخلي من فساد وفقر وهشاشة، وقد يتصل في أحيان أخرى بمؤثرات خارجية، تتعلق بصراع القوى الكبرى على تأمين المصالح وتحصين النفوذ.
خلال ستة عقود من الاستقلال، شهدت دول إفريقيا ما يزيد على 200 انقلاب عسكري، تكلل نصفها بالنجاح، بحسب دراسة للباحثين جوناثان باول وكلايتون ثين. وظل متوسط المحاولات ثابتا بشكل ملحوظ، ما بين 1960 و2000، بمعدل بلغ أربع محاولات سنوية. وخلال عقدي الستينيات والسبعينيات فقط، عرفت القارة ما يفوق مائة انقلاب عسكري، أما التآمرات والمحاولات الفاشلة، فتبقى عصية على التعداد والحصر.
سجلت دول إفريقية أرقاما قياسية في عدد الانقلابات، فبوركينا فاسو الدولة الواقعة في غرب إفريقيا، مثلا عاشت عشر محاولات انقلابية، نجحت في جلها في تولي مقاليد السلطة، وكان أشهرها الانقلاب الدموي، في تشرين الأول (أكتوبر) 1987 بقيادة النقيب بليز كومباوري، ضد الرئيس توماس سانكارا، اليساري الملقب بـ"تشي جيفارا إفريقيا"، لانتصاره الشديد لفكرة الوحدة الإفريقية.
وعرفت أوغندا بدورها أكثر من ست محاولات انقلابية، كان آخرها 1986 بقيادة الرئيس الحالي يوري موسيفيني، صاحب ثلاث محاولات انقلابية "1980 و1985 و1986"، الذي حظي بولاية سادسة في انتخابات رئاسية جرت مطلع العام الجاري، فيما وقع أول انقلاب، بعد أربعة أعوام من الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، تحديدا في شباط (فبراير) 1966، عقب إطاحة أبولو ميلتون أوبوتي بالزعيم موتيسا الثاني ملك مملكة بوغاندا.
بوروندي كانت من بين الدول الأكثر انقلابا بـ11 محاولة منفصلة، غالبا ما تكون بدافع الصراع العرقي بين الهوتو والتوتسي. فيما شهدت سيراليون ثلاثة انقلابات، بين 1967 و1968، وانقلابا في 1971. وبين 1992 و1997، وقعت فيها خمس محاولات انقلاب. وكان لغانا في غرب إفريقيا نصيبها، بتسجيل ثمانية انقلابات في عقدين من الزمن، كان أولها، بعد مضي تسعة أعوام على الاستقلال عن بريطانيا.
منذ أواخر التسعينيات حتى مطلع الألفية الثالثة تراجعت الظاهرة نسبيا في القارة السمراء، نتيجة المعارضة الشعبية لأي انقضاض خشن على السلطة، بأساليب غير دستورية، وأسهم نشوء الاتحاد الإفريقي 1999، وإقراره بنودا استثنائية في القانون الأساسي، في محاصرة الانقلابات، فالمادة 30 من النظام الأساسي للاتحاد، تفيد بأن هذا الأخير لا يقبل مشاركة الحكومات التي تصل إلى السلطة بوسائل مخالفة للدستور في أنشطته.
تماشيا مع هذا التوجه، أسس الاتحاد 2002 مجلس السلم والأمن الإفريقي، وأقر بمقتضى البروتوكول التنظيمي، أحقية الاتحاد في التدخل لحماية النظام الدستوري في حال وجود تهديد خطير للنظام الشرعي، ويكون التدخل، حسب نص البروتوكول، دون طلب الدولة، وزاد الاتحاد في قمة أديس أبابا 2009 من التشدد في مواجهة عودة الانقلابات إلى القارة، باعتبارها تراجعا في مسار العملية الديمقراطية في إفريقيا، وتهديدا للسلم والأمن والاستقرار.
ظلت هذه المادة في البروتوكول عالقة، لعدم الحصول على 2/3 من الأصوات لدخولها حيز التنفيذ، قصد تعطيل الانقلاب، ما أسهم في تشجيع عودة دول القارة إلى الانقلابات، عبر موجة جديدة من الانقلابات على الأنظمة الشرعية المنتخبة، بدءا من العشرية الثانية من القرن الـ21، بالموازاة مع تلك العودة، تنامت ظاهرة عسكرة المجتمعات، وتحويلها إلى ميليشيات، وترسيخ ثقافة العنف، بانتشار السلاح العشوائي. فقد أشارت دراسة إلى تداول زهاء 30 مليون قطعة سلاح في إفريقيا جنوب الصحراء وحدها، بين 2008 و2011، ربع هذا العدد في غرب إفريقيا وحدها.
يكشف هذا المعطى حضور البعد الخارجي في دعم وتأييد الانقلابات، فمنطقة غرب إفريقيا باتت مجالا للصراع والتنافس والاشتباك بين القوى التقليدية مثل فرنسا بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية من ناحية، وقوى جديدة كالصين وروسيا والهند يرى فيها الغرب تهديدا مباشرا لمصالحه وشرعيته التاريخية. وتذهب التقارير الاستقصائية إلى أن أي دولة إفريقية تحاول التحرر والاستقلال عن التبعية للقوى التقليدية، تواجه بخطوات استباقية، فـ"لا مجال للصدفة في إفريقيا، والانقلابات تصنع من الخارج، ولذلك فإن الدول التي اكتمل تحررها يستحيل أن تشهد انقلابات".
كانت منطقة غرب إفريقيا، خلال أقل من عام، مسرحا لأربع محاولات انقلابية، بالتزامن مع ما تشهده من تنام واسع لجماعات العنف والتطرف، فقبل أيام أطاح الجيش بقيادة العقيد مامادي دومبويا، الجندي السابق في الجيش الفرنسي، بالرئيس الغيني ألفا كوندي الذي تولى الحكم، عقب أول انتخابات ديمقراطية في البلاد 2010، وأعيد انتخابه لولاية ثانية بعد خمسة أعوام، قبل أن يظهر نزعة سلطوية دفعته إلى تغيير الدستور، وتنظيم انتخابات رئاسية منحت له ولاية ثالثة، ما عجل بتحرك الجيش للإطاحة به.
وشهدت جارتها مالي تدخل الجيش في السياسة مرتين في أقل من عام، وكانت الأخيرة في شهر أيار (مايو) الماضي، بعد استيلاء القائد أسيمي جويتا على السلطة مرة أخرى، والإطاحة بالرئيس المدني الانتقالي الذي أغضب الجيش بتعديل وزاري في حكومته. الضباط أنفسهم قادوا انقلاب 18 آب (أغسطس) 2020، لثني الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا عن الاستقالة بعد أشهر من الاحتجاجات الشعبية.
وأعلنت الحكومة النيجيرية أواخر آذار (مارس) بيانا تعلن فيه إحباط انقلاب عسكري، يهدف إلى تقويض الديمقراطية الوليدة في الدولة، وذلك قبل يومين من تنصيب الرئيس الجديد المنتخب محمد بازوم، الذي كان وزيرا للداخلية في حكومة الرئيس المنتهية ولايته، كادت هذه المحاولة أن تنهي أول انتقال سلمي للسلطة في الدولة، منذ الاستقلال عن فرنسا في 1960.
عدوى الانقلابات في القارة السمراء، بهذه الوتيرة السريعة، تثير التساؤل عما يحدث في إفريقيا، هل دخلت القارة مرحلة جديدة من الصراع بين القوى الكبرى، أم أن السبب كامن في رغبة الجيوش الإفريقية في تأهيل وتنمية دولها، في ظل فساد وولاء النخب السياسية للخارج؟ لا تفيدنا التجارب بجواب قاطع، فالانقلابات العسكرية التي كانت المصلحة العامة ضابطا لها في تغيير الحكم، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، بدءا بتوماس سينكارا في بوركينا فاسو منتصف الثمانينيات، مرورا بعبد الرحمن سوار الذهب في السودان، في الحقبة الزمنية نفسها، وصولا إلى علي محمد ولد فال في موريتانيا 2005.

الأكثر قراءة