أوكوس .. تصدع غربي آخر بطعم الخيانة
تصدع آخر، بطعم الخيانة هذه المرة، في الحلف الغربي التقليدي، فبعد ضربة مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، أعلنت واشنطن تشكيل تحالف أمني استراتيجي، في منطقة المحيطين الهندي والهادي، أطلق على اتفاقية التأسيس اسم AUUKUS، اختصارا لأسماء الدول الثلاث المشاركة فيه "أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية". تأتي هذه الشراكة الدفاعية لمواجهة تنامي النفوذ الصيني في المنطقة، دون الإشارة إلى ذلك بشكل صريح، حيث اكتفى قادة الدول الثلاث بالحديث عن "مخاوف أمنية إقليمية نمت بشكل كبير".
ظاهر الاتفاق عودة أمريكية قوية لقيادة العالم، بضمان الأمن والاستقرار والدفاع عن أحواز المعسكر الغربي من التهديدات الشرقية، صينية كانت أو روسية، وفي باطن الأمر تفاصيل أخرى من شأنها خلخلة خريطة المحاور في العالم، والدفع بإقامة تحالفات حديثة على الصعيد الدولي، وتغيير موازين القوى، بفرز معادلات جديدة، تتوافق مع المعطيات الطارئة على الجبهتين الإقليمية والدولية.
واشنطن .. بحثا عن مظلة جديدة
نزل خبر التحالف الدفاعي الأمريكي البريطاني الأسترالي كالصاعقة على دول الاتحاد الأوروبي، وبوقع خاص داخل فرنسا، فبسبب الاتفاق تراجعت أستراليا عن إتمام صفقة مع مجموعة "نافال جروب" الفرنسية للصناعات الدفاعية، يعود تاريخ إبرامه إلى 2016، بقيمة تصل إلى 56 مليار يورو، قصد بناء أسطول من 12 غواصة تقليدية، من طراز "أتاك"، تعمل بالديزل والكهرباء لمصلحة البحرية الأسترالية.
واستعاضت أستراليا عنها بغواصات تعمل بالطاقة النووية، كأول ثمار لهذا التحالف الجديد، ما يجعلها ثاني دولة يسمح لها بالوصول إلى التكنولوجيا النووية الأمريكية، بعد بريطانيا التي حصلت عليها 1958، علاوة على تبادل المعلومات والتقنيات العسكرية وتعزيز القدرات الإلكترونية في مجال الأمن الإلكتروني والذكاء الاصطناعي والتقنيات الكمية وتكنولوجيا الغواصات والأنظمة تحت الماء وقدرات الضربات بعيدة المدى...
بهذه الخطوة تدخل أستراليا نادي النخبة، الذي يضم سبع دول في العالم، تملك غواصات تعمل بالطاقة النووية، ويمكنها السفر لمسافات طويلة دون الحاجة إلى التزود بالوقود، وتحقق - من منظور جون بلاكسلاند الأكاديمي في الجامعة الوطنية الأسترالية - "أكبر مفاجأة جيوسياسية أسترالية منذ عقود، فصفقة الغواصات تؤكد اعتقاد الولايات المتحدة أهمية تعزيز قدرات أستراليا بشكل غير مسبوق".
دافع وزير الدفاع الأسترالي عن موقف بلاده، مؤكدا أن التخلي عن الصفقة الفرنسية اتخذ بناء على اعتبارات تراعي مصلحة الأمن القومي الأسترالي، فقد تبين أن النموذج الفرنسي في الغواصات - بحسب بيتر داتن - لا يتفوق على ذلك المستخدم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، وزاد وزير الدفاع البريطاني الأمر وضوحا، حين تحدث أمام وسائل إعلام بريطانية مؤكدا أن الصين "تشرع في واحدة من أكبر عمليات الإنفاق العسكري في التاريخ... لذا يريد شركاؤنا في تلك المناطق أن يكونوا قادرين على الصمود في أرضهم".
تربط أستراليا علاقات جيدة بالصين حتى وقت قريب، فهذه الأخيرة أكبر شريك تجاري للأولى، لكن توتر العلاقات بينهما تزايد في الأعوام الأخيرة، وتبادل الطرفان الضربات، بانتقاد أستراليا معاملة الصين لأقلية الإيجور، ثم حظرها تكنولوجيات خاصة بشركة هواوي الصينية. رد بكين كان اقتصاديا، بفرض ضرائب على المنتجات الأسترالية، كالشعير والنبيذ. بدورها فشلت واشنطن في تهدئة النزاعات مع بكين، ولا سيما ما يتعلق بتغير المناخ والتعريفات الجمركية وصادرات السلع عالية التقنية. وأخيرا تجدد السجال الصيني البريطاني حول هونج كونج.
لاستيعاب هذا الاتفاق لا بد من قراءته في سياق أكبر، يتعلق بخطة الرئيس الأسبق باركا أوباما، الذي تنعته أوساط أمريكية بالرئيس الباسفيكي، لكثرة اهتمامه بالنفوذ الأمريكي في هذه المنطقة. يتعزز هذا الطرح باستضافة الرئيس الأمريكي هذا الأسبوع أول اجتماع مباشر في البيت الأبيض، يضم زعماء كل من أستراليا واليابان والهند.
باريس .. خيانة مزدوجة من الحلفاء
لا أحد يتوقع أن يعمد رئيس ديمقراطي في البيت الأبيض إلى بناء تكتلات جديدة، على حساب تحالفات تقليدية، تعود إلى زمن الحرب العالمية الثانية. صحيح أن كثيرا من قواعد اللعبة تغير، ولا سميا ما يتعلق بالظروف الاستراتيجية لعديد من المناطق، التي تتسارع وتيرتها بشكل يصعب توقعه. هذا الزعم لا يصمد كثيرا أمام معطيات الجغرافيا، ففرنسا لا تزال لاعبا محوريا في المنطقة، إذ أعطى الرئيس إيمانويل ماكرون منطقة المحيطين الهندي والهادي أولوية، منذ 2018.
لذا لا يتردد الفرنسيون في اعتبار ما جرى طعنة من الخلف، ومحاولة أمريكية بريطانية مكشوفة لتهميش الدور الفرنسي، رغم وجود جزر فرنسية في منطقة المحيط الهادي. وذهب بيان وزارة الخارجية إلى أن "الخيار الأمريكي الذي يؤدي إلى إقصاء حليف وشريك أوروبي مثل فرنسا من شراكة مزمنة مع أستراليا، في وقت نواجه فيه تحديات غير مسبوقة في منطقة المحيطين الهندي والهادي... هذا قرار مخالف لنص وروح التعاون الذي ساد بين فرنسا وأستراليا".
كان أول ردود الفعل الفرنسية إلغاء حفل استقبال، كان مقررا في واشنطن، بمناسبة ذكرى معركة بحرية حاسمة في حرب الاستقلال الأمريكية، توجت بانتصار الأسطول الفرنسي على الأسطول البريطاني في أيلول (سبتمبر) 1781. تلاها استدعاء السفراء، السبت الماضي، في احتجاج دبلوماسي رفيع المستوى.
فوقع الضربة على باريس كان قويا، ولا سيما أنها مزدوجة، بالقرار الأحادي والمفاجئ من جهة كانبرا، ما عرض العلاقة المبنية على الثقة إلى الخيانة، ومن جهة أخرى، بالدعم والتحفيز الذي حظي به من واشنطن، حتى بدت سياسة بايدن، في أعين الفرنسيين، غير مختلفة عن سلفه دونالد ترمب، في وقت كان الجميع يعتقد فيه أن الرجل يسعى إلى تعزيز العلاقات بين ضفتي المحيط الأطلسي، بعدما سادها الاضطراب طوال الأعوام الأربعة الماضية.
مواقف أم معالم تكتلات دفاعية
تدافع بريطانيا عن التحالف، لكونها الرابح الأكبر منه، فقد حققت نصرا دبلوماسيا كبيرا لاستراتيجيتها الرامية إلى تجنب عزلة دولية، بعدما خرجت من الاتحاد الأوروبي، فالمعاهدة ستربط بين المملكة المتحدة وأستراليا والولايات المتحدة بشكل أوثق، وتجعل لندن - بعيدا عن مظلة الاتحاد الأوروبي - فاعلا أساسيا في استراتيجية التحول الأمريكي من الشرق الأوسط والمحيط الأطلسي نحو المحيط الهادي، في محاولة لكبح جماح بكين التي تدعي سيادتها على أجزاء واسعة من بحر جنوب الصين.
دعت الصين في معرض تعليقها على الاتفاق الأمني الثلاثي، إلى "التخلص من عقلية الحرب الباردة والتحيز الأيديولوجي"، معتبرة الصفقة "غير مسؤولة إطلاقا"، لكونها تزعزع السلام والاستقرار الإقليميين، وتكثف سباق التسلح، وتقوض الجهود الدولية باتجاه إزالة انتشار الأسلحة النووية.
أعلنت جاسيندا آرديرن، رئيسة وزراء نيوزيلندا، تعليقا على الاتفاق أن موقف بلادها من استخدام الطاقة النووية لم يتغير، ما يعني أن الحظر الساري منذ 1985 على دخول أي قطعة بحرية تعمل بالدفع النووي مياه بلادها، سيسري على الغواصات التي تعتزم حليفتها الوثقى أستراليا الحصول عليها، بفضل شراكة أبرمتها لتوها مع الولايات المتحدة وبريطانيا.
طالبت أورسولا رئيسة المفوضية الأوروبية بضرورة تسريع الوتيرة، داخل الاتحاد الأوروبي، من أجل "الدفاع عن نفسه في مواجهة الهجمات الإلكترونية، والتحرك حيث لا وجود لحلف شمال الأطلسي والأمم المتحدة، ومعالجة الأزمات في الوقت المناسب"، ودعا جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي "إلى التفكير في الحاجة إلى جعل مسألة الحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي أولوية، وهذا يظهر أننا يجب أن نعيش بمفردنا"، معتبرا "القرار المؤسف الذي أعلن عنه، يؤكد ضرورة إثارة مسألة الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي بصوت عال وواضح. ما من طريقة أخرى جديرة بالثقة للدفاع عن مصالحنا وقيمنا في العالم".
ردود فعل من شأنها تعزيز موقف فرنسا، المقبلة على الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، مطلع العام المقبل، لإحياء مشروع الدفاع الأوروبي الموحد، بدل حلف الناتو الميت دماغيا - بحسب إيمانويل ماكرون - وذلك بالدفع نحو تعزيز القدرات الدفاعية والاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا، ما يمهد الطريق لباريس قصد الانفراد بقيادة الاتحاد، مستغلا التراجع الألماني بسبب اعتزال أنجيلا ميركل، دون الوقوع في ثنائية واشنطن - بكين.
تتجه الأنظار منذ أعوام، إلى المنطقة الممتدة من سواحل شرق إفريقيا إلى الغرب الأمريكي المليئة بالنقاط الساخنة، الاقتصادية أو العسكرية، التي ستضم 60 في المائة من السكان، إذ يرجح في حال شنت إمبراطورية مهيمنة الحرب على أخرى ناشئة، أن تكون هذه الرقعة الجغرافية مسرحا لتلك المواجهة.