ملامح أزمة اقتصادية عالمية مصدرها الصين
يترقب العالم بحذر خطوات عملاق العقارات الصينية شركة إيفرجراند، التي تقف على شفا الهاوية، إذ تشير التحليلات والدراسات إلى أنها ستسبب أزمة اقتصادية محلية في الصين، وسيكون القطاع المصرفي من بين أول المتضررين، وسيكتوي القطاع العقاري الصيني الأوسع بنيران هذه الأزمة، التي شبهت كثيرا، بأزمة بنك "ليمان براذرز" الذي أطلق الأزمة المالية العالمية 2008، وقد يتدهور الوضع الاقتصادي الناجم عن الأزمة لتتحول إلى أزمة اقتصادية عالمية، تضرب الاقتصاد العالمي ككل، لكن تدخل الحكومة الصينية لتدارك الأزمة في سباق مع الزمن، حتى تتم تسوية الأمور، فيما عجت شوارع مدن صينية بتظاهرات موظفي الشركة، المطالبين بحقوقهم.
المخاوف العالمية مبررة، خصوصا أن الدول بمختلف قدراتها الاقتصادية عانت الأمرين من جائحة كورونا، لتواجه اليوم خطرا جديدا مصدره الصين، عقب انكشاف أزمة "إيفرجراند"، التي سيشمل تأثيرها قطاع البنوك، إذ تشير الأرقام إلى أن 170 بنكا صينيا و120 بنكا أجنبيا ستتضرر، ما سيشكل صدمة في القطاع البنكي، فضلا عن 160 مليار دولار ديونا لمصلحة الشركات التي تورد مواد البناء إلى "إيفرجراند"، التي بدورها تمتلك أكثر 1300 مشروع سكني في 280 مدينة صينية، وأكثر من 1.4 مليون وحدة سكنية فيها لن تستطيع بيعها، إضافة إلى 200 ألف موظف وملايين العمال.
"فقاعة العقارات" الصينية ليست حديثة العهد بل معروفة منذ أعوام، والمحللون كانوا يتساءلون، لماذا لم تنفجر حتى الآن، والسبب واضح، إذ يتمحور حول سياسة التعتيم الإعلامي والضغط الحكومي، اللذين أسهما بشكل كبير في تأخير الأمر المحتوم وانفجار الفقاعة.
مجريات الأحداث على الأرض، كشفت مدى تردي الأوضاع هناك، التي فجرها الموظفون البالغ عددهم 123 ألف موظف بسبب تأخر صرف رواتبهم بالتظاهر، وتنتشر فروع الشركة في أكثر من 280 مدينة، وتفيد بأنها تستحدث 3,8 مليون وظيفة صينية بشكل غير مباشر، لتبلغ المخاوف مسامع البنوك في هونج كونج، بما في ذلك "إتش إس بي سي" و"ستاندرد تشارترد"، التي رفضت تقديم قروض جديدة لمشترين في مشروعين سكنيين غير مكتملين لدى "إيفرجراند".
من ناحية أخرى، أسهمت سياسة الطفل الواحد في زيادة نسبة كبار السن على حساب الشباب وهو ما تسبب في انخفاض معدلات نمو قطاع الإسكان، وهو ما اضطر الحكومة الصينية إلى إنهاء العمل بهذه السياسة في 2015 و2019 والسماح بأكثر من طفل وتيسير اللوائح المتعلقة بتكوين أسرة من طفلين وحتى ثلاثة أطفال، في نقلة نوعية كبيرة بين السياسات التقييدية والأخرى الانفتاحية فيما يتعلق بالزيادة السكانية، لكن الأرقام تشير إلى تجاوز إجمالي مديونية "إيفرجراند"، نحو تريليوني يوان صيني "1.97 تريليون يوان"، بما يعادل نحو 305 مليارات دولار أمريكي، وهي شركة التطوير العقاري الأكثر مديونية في العالم، التي تعاني تدهور السيولة النقدية وما يعادلها عند الشركة إلى أدنى مستوى منذ ستة أعوام.
وتعتمد الشركة العقارية الصينية على القروض بشكل كبير في تمويل أنشطتها التجارية المتنوعة، التي تشمل مجالات الطاقة المتجددة والسيارات، لتتراكم الأزمات والديون بشكل ملموس في 2018، الذي تراجعت فيه إيراداتها من البيع، لتبدأ رحلة تعثرها عن سداد التزاماتها للبنوك، وليكون الكساد الناتج عن جائحة كورونا ضربة قاسية لمحاولات إعادة جمع شتاتها، ليخسر سهم "إيفرجراند" نحو 85 في المائة من قيمته منذ بداية العام الجاري.
كما لجأت الشركة إلى بيع نصيبها في شركات تابعة مدرجة تعمل في مجال السيارات الكهربائية والخدمات العقارية، من بين أصول أخرى، في محاولة منها لجذب مستثمرين جدد ومحاولة تجديد عمليات الاقتراض، إضافة إلى ذلك طرحت الشركة خصما كبيرا على أسعار أصولها العقارية، إذ يستطيع المستثمرون شراء وحدات سكنية بخصم يبلغ 28 في المائة من أسعارها الأساسية، بدلا من الحصول على مستحقاتهم نقدا، بينما يصل الخصم على الوحدات المكتبية إلى نحو 46 في المائة من سعر الوحدة، و52 في المائة للمحال التجارية.
وللحد من الأزمة وحل هذه المشكلة، تتجه كل الأنظار إلى الحكومة، فقطاع العقارات يعد محركا مهما للاقتصاد الصيني إذ يقدر بأنه يمثل نحو ربع الناتج المحلي الإجمالي، كما لعب دورا رئيسا في التعافي بعد الجائحة، وأي إفلاس لمثل هذه الشركة الكبرى ستكون له تداعيات كبيرة، لتبادر السلطات الصينية بتبليغ البنوك الكبرى الدائنة لـ"إيفرجراند"، لكن تستمر المخاوف بأن المجموعة قد تتوقف عن سداد فوائد الديون المستحقة عليها، وهو ما يقرب شركة التطوير العقاري العملاقة والمتعثرة ماليا خطوة مما ستكون واحدة من أكبر عمليات إعادة هيكلة ديون في الصين.
لكن الحكومة الصينية أطلقت تحذيرا للشركات المماثلة، وقالت "إنه لا توجد شركة أكبر من أن تفشل"، ما يعني أن الحكومة ستكف عن منح مسكنات للفقاعة العقارية، التي تعيشها البلاد منذ نحو ثمانية أعوام، بهدف دفع الشركات الأخرى إلى حل أزماتها بنفسها دون تدخل حكومي، ليتزامن ذلك مع ضخ السيولة في الشركة بشكل من الأشكال، من ضمن عدة سيناريوهات، إذ سارع بنك الشعب الصيني إلى ضخ 17 مليار دولار نقدا، من خلال اتفاقات إعادة شراء عكسية في مدة زمنية محدودة، وسط مخاوف بشأن الأزمة.
وتعد هذه السيولة هي الأكبر على المدى القصير منذ أواخر يناير، وينصب التركيز على قدرة المطور العقاري الصيني على دفع 83.5 مليون دولار من الفوائد المستحقة في الآونة الأخيرة، أما السندات المرصودة للأعوام الخمسة المقبلة، التي لها فترة سماح مدتها 30 يوما قبل أن تسجل تخلفا عن السداد، فهي جزء من 669 مليون دولار من فائدة السندات المستحقة حتى نهاية هذا العام، لتقفز أسهم الشركة للتطوير المثقلة بالديون والمدرجة في هونج كونج بما يصل إلى 32 في المائة، في التعاملات المبكرة، وهي أكبر نسبة ارتفاع منذ 2009، في ظل مراهنات على أن الشركة ستتجنب التعثر بعد أن تفاوضت إحدى وحداتها على مدفوعات الفائدة على سندات اليوان.
وذكرت صحيفة "تشاينا سيكيوريتيز جورنال" أن شو شيايين رئيس مجلس إدارة الشركة العقارية الصينية، حث أكثر من أربعة آلاف مدير تنفيذي للشركة، على تكريس كل طاقاتهم لاستئناف العمل والإنتاج وتسليم العقارات، وتعد الشركة من بين أكبر ثروات الصين، وتبذل قيادات الشركة كل ما في الإمكان للوفاء بالاتزامات.
وللتخفيف من انتقادات محتملة لبكين، قال لي داوكوي الأستاذ في كلية الاقتصاد والإدارة في جامعة تسينجهوا في لقاء متلفز "التأثير سيكون في الاقتصاد الحقيقي، لأنه مع تعثر "إيفرجراند"، سيكون هناك تباطؤ في تطوير عديد من المشاريع، وسيكون لسوق العقارات تأثير في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للعام المقبل بسبب تباطؤ التمويل للقطاع بأكمله"، مضيفا "إن التخلف عن السداد من قبل "إيفرجراند" سيكون له تأثير ضئيل في النظام المالي الصيني، لأنه لا توجد أدوات مشتقة مبنية على ديون الشركة"، وتعرف المشتقات بأنها أوراق مالية معقدة تستمد قيمتها من أصل أساسي، مثل الأسهم والسندات، وتستخدم لأغراض مختلفة بما في ذلك التحوط من المركز والمضاربة على الأصل الأساسي.
بدوره، حافظ بنك التنمية الآسيوي على توقعاته للنمو بالنسبة إلى الصين عند 8.1 في المائة، لـ2021 و5.5 في المائة، لـ2022، ما يشكل تحسنا عن النمو البالغ 2.3 في المائة عن العام الماضي، عندما أصبحت الصين الاقتصاد الرئيس الوحيد الذي نما، بينما كان معظم اقتصادات العالم متضررا بشدة من الجائحة، ليشكك هذا الجانب آخرين في وجود أزمة، لأن حجم ديون الشركة لا يتخطى 305 مليارات دولار، في حين إن حجم الاقتصاد الصيني يتخطى 16 تريليونا مع ناتج محلي إجمالي يتخطى 14 تريليونا، ما يجعل الحكومة قادرة على احتواء تلك الأزمة بسهولة.
أمريكيا، من شأن تأثير نمو ثاني أكبر اقتصاد عالمي أن يؤثر في شكل الاقتصاد العالمي ككل، في ظل مخاوف من أن يقدم الاقتصاد الأمريكي صاحب المركز الأول على أزمة مالية تاريخية إذا لم تلجأ واشنطن إلى رفع حد سقف الدين، كما طالبت جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية، برفع سقف الدين، لتجنب "أزمة مالية تاريخية" حال التخلف عن السداد، بما سيتبعه من رفع معدلات الفائدة وتراجع أسعار الأسهم بشكل حاد، وغير ذلك من الاضطرابات المالية".
أشارت التوقعات إلى احتمالية أن يواجه العالم أزمة مالية في المدى الزمني المتوسط، لكن التأثير الحالي لأزمة "إيفرجراند" انعكس على أسواق المال العالمية، وفقدت فيه كبريات الشركات مليارات الدولارات من قيمتها السوقية، كما تكبدت الأسهم الأمريكية أكبر خسائر يومية لها في أربعة أشهر، حيث هبط مؤشر ستاندرد آند بورز بنسبة 1.7 في المائة، كما هبط مؤشر ناسداك المركب لأسهم التكنولوجيا بنسبة 2.1 في المائة، وتراجع مؤشر ستوكس 600 الأوروبي.
من جهته، قال جاري جينسلر رئيس لجنة البورصات والأوراق المالية الأمريكية "إن السوق الأمريكية في موقف أفضل لاستيعاب صدمة عالمية محتملة من إفلاس شركة كبرى مقارنة بالأعوام السابقة على الأزمة المالية 2007 - 2009"، في إشارة إلى أزمة ديون شركة إيفرجراند الصينية، مفسرا غموض التسويق بأنه تم خارج المقاصة، بعدم امتلاك الشركة كامل المبلغ الواجب سداده، أو كون المهلة لا تسمح لها بالسداد ضمن المقاصة، شراء للوقت وتفاديا للتخلف التقني عن السداد.