لبنان .. مأزق المفارقات الدامية

لبنان .. مأزق المفارقات الدامية
سارع الجيش إلى تطويق المنطقة والانتشار في أحيائها.
لبنان .. مأزق المفارقات الدامية
الاشتبكات المسلحة أعادت إلى الأذهان مشاهد الحرب الأهلية اللبنانية.
لبنان .. مأزق المفارقات الدامية
الذكرى الثانية أكثر مرارة من يوم انطلاق الثورة ذاتها.

تفجرت الأوضاع السياسية والعسكرية في لبنان أخيرا، بشكل مؤقت دون أن تعم لبنان من شماله لجنوبه ومن شرقه لغربه، لكنها مؤشر خطير قد يجر البلاد إلى ما هو أسوأ، في حال استمرت الأحوال على ما هي عليه، حيث خلفت احتجاجات في العاصمة اللبنانية بيروت قتلى وجرحى، نفذها أنصار حزب الله وحركة أمل، رفضا لمطالبات القاضي المكلف في ملف انفجار مرفأ بيروت طارق بيطار، بإسقاط الحصانة عن وزراء سابقين، بحجة أن تحقيقاته "مسيسة" في قضية انفجار المرفأ، الذي وقع في أغسطس 2020، لتشهد العاصمة فوضى إطلاق نار كثيف، وانفجارات عدة جراء إطلاق قذائف آر بي جي، أعادت إلى الأذهان مشاهد الحرب الأهلية اللبنانية، كما أعادت إلى اللبنانيين مشهدية صبيحة السابع من أيار بكابوسها الأمني، الذي ما زال يقض مضاجع الذاكرة الأهلية، التي كشفت سوءات وعورات الانقسام الشعبي الطائفي في لبنان.
هدد الجيش اللبناني بإطلاق النار باتجاه أي مسلح يوجد على الطرقات وباتجاه أي شخص يقدم على إطلاق النار من أي مكان آخر، مطالبا المدنيين بإخلاء الشوارع، وتزامنت الأحداث مع رفض محكمة التمييز المدنية دعوى تقدم بها وزيران سابقان، طلبا فيها كف يد بيطار عن القضية، الذي تزداد الضغوط السياسية عليه بعد طلبه ملاحقة مسؤولين سياسيين وأمنيين بارزين.
وتباعا للأحداث أصدر الجيش اللبناني بيانا، جاء فيه: "خلال توجه محتجين إلى منطقة العدلية، تعرضوا لرشقات نارية في منطقة الطيونة- بدارو، وقد سارع الجيش إلى تطويق المنطقة والانتشار في أحيائها، وعلى مداخلها، وبدأ تسيير دوريات، كما باشر البحث عن مطلقي النار"، إذ اتسعت رقعة الاشتباكات حتى مار مخايل، وسماع دوي انفجارات ناتجة عن استخدام أسلحة متوسطة، وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات لمسلحين يطلقون قذائف آر بي جيه، إضافة إلى مشاهد لسيارات مزودة برشاشات ثقيلة تحمل أعلام حزب الله متوجهة نحو مناطق الاشتباكات، فيما أغلقت أبواب المدارس على الطلاب الموجودين فيها لتكون ملاجئ، لحماية طلابها ومدرسيها وبعض المدنيين الفارين من الرصاص.
ولامتصاص الغضب، أجرى الرئيس اللبناني ميشال عون اتصالات مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ووزيري الدفاع والداخلية وقائد الجيش لإعادة الهدوء، كما دعا رئيس الوزراء نجيب ميقاتي إلى الهدوء وعدم الانجرار وراء الفتنة، فيما تكفل الجيش اللبناني بتسيير دوريات للبحث عن مطلقي النار وتوقيفهم، ليتم اعتقال تسعة أشخاص بينهم سوري الجنسية، لتكون حصيلة الخسائر البشرية قتل سبعة أشخاص وإصابة 33 شخصاً على الأقل في منطقة الطيونة والشياح في بيروت، ليوصف الاشتباك المسلح بأنه "الأخطر منذ أعوام"، في حين يخيم هدوء حذر على الأوضاع، التي تسببت في يوم إيقاف كامل الجمعة، مع انتشار الجيش في الأحياء الداخلية لهذه المناطق وبدء عمليات دهم بحثا عن مطلوبين.
انطلقت الشرارة الأولى للأزمة الأخيرة، بعد أن انتشرت مقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي لأعمال شغب وتكسير للسيارات من قبل المتظاهرين، كما أظهرت "المقاطع" مسلحين ملثمين يطلقون النار من بنادق آلية باتجاه قوات الجيش، ليعبر المتظاهرون منطقة عين الرمانة ذات الحساسية الكبيرة في بيروت والمحسوبة على تياري الكتائب اللبنانية والقوات اللبنانية المسيحيين، واللذين يعدان الخصم الأبرز لتحالف العهد الجديد بين حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر، الذي يقوده الرئيس اللبناني ميشال عون وصهره جبران باسيل، إذ أفاد شهود عيان بأن المتظاهرين رددوا شعارات طائفية أثناء عبورهم منطقة عين الرمانة، التي لا يتقاطع معها أي طريق مع منطقة قصر العدل اللبناني.
بلا شك، وبالمعايير اللبنانية يعد هذا التحرك مقصودا، خصوصا أن أنصار حزب الله وأمل، يمارسون ذات الطقوس الإيرانية في التمدد، من خلال بسط نفوذهم تدريجيا على أماكن بعينها بحجج مختلفة، لكن أنصار القوات والكتائب عدت الدخول بمنزلة احتلال لقلعة صمودهم، التي شهدت أحداثا دامية في الـ1982، أثناء التصدي للقوات السورية وفصائل فلسطينية مسلحة آنذاك، بعد اغتيال رئيس تيار الكتائب بشير الجميل، حيث تعد منطقة عين الرمانة والشياح نقطة تماس بين منطقتين أحدهما ذات كثافة سكانية شيعية والأخرى ذات كثافة سكانية مسيحية، وكلتا المنطقتين عبارة عن قنابل موقوتة في حاضر لبنان ومستقبله، خصوصا أن قادة الفريقين السياسيين تراشقا التصريحات أخيرا، وأنهم على استعداد لأي مواجهة.
إلى ذلك، تسبب رفض محكمة التمييز في بيروت الطلب الثاني بتنحية المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي بيطار، بهذه الأحداث، إذ يتبع حزب الله سياسة النزول للشارع في كل قرار تتخذه أجزاء من الدولة، التي لم تخضع لسلطته بعد، ليكون لبنان بأسره تحت سيطرة مجموعة من المحتجين، القادرين على التحول لمقاتلين مدججين بالأسلحة خلال دقائق، محكمة التمييز المدنية، التي رفضت الدعوى على اعتبار أن الأمر ليس من صلاحيتها لأن بيطار "ليس من قضاة محكمة التمييز"، وكانت التحقيقات في قضية انفجار المرفأ علقت، بعد تقدم وزير المال السابق، علي حسن خليل، ووزير الزراعة السابق، غازي زعيتر، بطلب رد بيطار، الأمر الذي استدعى تعليق التحقيق ووقف كل الجلسات لحين بت المحكمة المختصة بالدعوى لناحية قبولها أو رفضها.
وأحال رئيس مجلس القضاء الأعلى، القاضي سهيل عبود، الذي يعد الرئيس الأول لمحكمة التمييز، الطلب الذي تقدم به خليل وزعيتر، لتنحية بيطار عن التحقيق، وذلك على ما تعرف بالغرفة الأولى لمحكمة التمييز المدنية للنظر به، وبعد رفض قرار المحكمة، سيعاود بيطار عمله في التحقيق في انفجار المرفأ مجددا، ومن المفترض أن يحدد مواعيد لاستجواب كل من زعيتر ووزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، بعدما اضطر لإلغاء جلستي استجوابهما الأسبوع الحالي إثر تعليق التحقيق.
تمسك حزب الله باستقالة بيطار هو الدليل على أن مجريات التحقيق تسير بالاتجاه الصحيح، كما يراها أهالي الضحايا، خصوصا أن الشخص المكلف باستعادة حقوق أبنائهم الضحايا لا ينتمي لأي تيار سياسي، وغير مسيس، لكن وبشكل مفاجئ انتشر فيديو للمتحدث باسم أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت إبراهيم حطيط يدعو فيه القاضي طارق البيطار إلى التنحي، متوجها بأحر التعازي إلى أهالي شهداء الطيونة، عادا أن ما يحصل في التحقيق يحمل في طياته كثيرا من التسييس والاستنسابية"، مطالبا القاضي البيطار بالتنحي والإفساح في المجال أمام قاض آخر يكون أمينا على "دماء شهدائهم".
اكتفى الرئيس ميقاتي بالدعوة إلى التهدئة، وفي أول الردود الخارجية عبرت فرنسا عن قلقها إزاء أعمال العنف الدامية التي جرت في لبنان، ودعت جميع الأطراف إلى التهدئة، معلنة دعمها لاستمرار التحقيق، وجاء في بيان الخارجية الفرنسية "يجب أن يتمكن القضاء اللبناني من العمل بشكل مستقل وحيادي في إطار هذا التحقيق، دون عراقيل وبدعم كامل من السلطات اللبنانية".
بدورها، استنكرت الخارجية الأمريكية الاشتباكات المسلحة، التي اندلعت في بيروت، وقال متحدث الخارجية نيد برايس، في إفادة صحافية، إن واشنطن "تعارض محاولات الترهيب التي يتعرض لها القضاء في لبنان"، مشيرا إلى أن الإدارة الأمريكية تدعم "استقلال القضاء اللبناني"، داعيا جميع الأطراف في لبنان إلى "التهدئة ووقف التصعيد، ولا سيما في بيروت"، فيما اتهم سلوك حزب الله بأنه "يزعزع استقرار لبنان".
وأدان حزب الله وحركة أمل، في بيان مشترك نشرته الوكالة الوطنية للإعلام، "تعرض المشاركين فيه (الاحتجاج) إلى اعتداء مسلح من قبل مجموعات من حزب "القوات اللبنانية"، التي انتشرت في الأحياء المجاورة وعلى أسطح البنايات ومارست عمليات القنص المباشر للقتل المتعمد، ما أوقع هذا العدد من الشهداء والجرحى"، وحمل البيان الجيش والقوى الأمنية "مسؤولياتهم في إعادة الأمور إلى نصابها، وتوقيف المتسببين في عمليات القتل والمعروفين بالأسماء والمحرضين، الذين أداروا هذه العملية المقصودة من الغرف السود ومحاكمتهم وإنزال أشد العقوبات بهم".
من جانبه، قال حزب القوات اللبنانية: اتهامه بالتورط في هذه الأحداث "مرفوض جملة وتفصيلا، وهو اتهام باطل والغاية منه حرف الأنظار عن اجتياح حزب الله لهذه المنطقة وسائر المناطق في أوقات سابقة"، مشيرا في بيان له نشرته الدائرة الإعلامية، أن الفيديوهات المنتشرة للأحداث "تؤكد بالملموس الظهور المسلح بالأربيجيات والرشاشات والدخول إلى الأحياء الآمنة، في إشارة إلى مقاتلي حزب الله".
بالنسبة إلى الشعب اللبناني تبدو الأمور أكثر وضوحا من أي وقت مضى، ولن يتجاوز لبنان وشعبه الأزمات عن طريق تشكيل حكومات جديدة، خاضعة لسيطرة حزب الله، فمن كانوا يأملون بأن العالم سيتعامل مع حكومتهم بثقة، والحكومة ذاتها لا تثق بنفسها، خصوصا أنها لن تقوى على فتح ملفات تدين حزب الله في القضايا الكبرى، تلك مسألة لا يمكن تخطيها للوصول إلى لغة مشتركة مع العالم، فالعالم يريد أن يفهم ما الذي حدث في لبنان منذ أن تقاوى الحزب على الدولة.
الأحداث الأخيرة أحدثت شرخا بين تفاهم التيار الوطني الحر وحزب الله، إذ يعد حزب الله عدم تأييد موقفه ودعواته لكف يد القاضي طارق البيطار، فيما يعترض أنصار التيار الوطني على طريقة تعاطي الحزب مع القضاء ويشددون على وجوب حل أي مشكلة مع البيطار ضمن أطر السلطة القضائية، لكن حزب الله يرى أن موقف الرئيس عون "طعنة غدر"، وإن لم يصرحوا بذلك، خصوصا فيما يتعلق بمواجهات منطقة الطيونة- عين الرمانة في بيروت، خصوصا بعد تصريح الرئيس بأن "الشارع ليس مكان الاعتراض، كما أن نصب المتاريس أو المواقف التصعيدية لا تحمل هي الأخرى الحل".
زج حزب الله بشكل أو بآخر التيار الوطني وقياداته بقضية انفجار المرفأ، واستخدمهم كرأس حربة للدفاع عن تجاوزاته في هذا الملف، خصوصا فيما يتعلق بتنحية القاضي بيطار، ليكسب مزيدا من الثقل السياسي، وتصفية خصومه وكل المطالبين بمحاسبة المتورطين بالانفجار، لكنه التيار الذي خذل حزب الله ولو باستحياء في هذا الملف، حاله حال كل مكونات المشهد اللبناني بالخوف على مصالحه، سواء من وجهة نظر الحسابات الانتخابية للتيار أو تلك المرتبطة بموضوع العقوبات الأمريكية حتى الأوروبية.
إلى ذلك، تحل الذكرى السنوية الثانية لانطلاقة انتفاضة 17 أكتوبر أو ما يعرف بالثورة اللبنانية العابرة للطوائف والمكونات السياسية، بالتزامن مع الأحداث الدامية في بيروت، إذ أجهضت الثورة بجهود أعداء الإصلاح في لبنان، لتكون الذكرى الثانية أكثر مرارة من يوم انطلاق الثورة ذاتها، حيث إن الأوضاع السياسية الاقتصادية في لبنان في أسوأ أحوالها، والتي تنذر بمزيد من الانهيار المالي في ظل استمرار الأسباب نفسها، التي أطلقت الاحتجاجات الشعبية والعفوية من قبل عامة اللبنانيين، أي نظام المحاصصة والفساد وغياب الشفافية والمحاسبة في الحيلولة دون قيام حكومة شعبية مستقلة بعيدة عن الانقسام والحسابات الخارجية للدول.

الأكثر قراءة