"إيريك زمور" .. شعبوي في عاصمة الأنوار

"إيريك زمور" .. شعبوي في عاصمة الأنوار
زمور: الغلاف ليس الشيء الوحيد الذي استلهمته من الرئيس الأمريكي السابق.
"إيريك زمور" .. شعبوي في عاصمة الأنوار

أحدث الصعود المفاجئ لإيريك زمور، اليهودي الفرنسي من أصول جزائرية، في استطلاعات الرأي الخاصة بالمرشحين للتنافس في الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها ربيع العام المقبل، هزة في الأوساط السياسية الفرنسية، وخلط أوراق اليمين واليسار والوسط معا. ويرجح مراقبون أن يصل الرجل إلى الدور الثاني في الرئاسيات، إن حافظ على هذا الأسلوب في إدارة المعركة الانتخابية.
لم يعلن الكاتب والصحافي الفرنسي نيته الترشح بعد، لخوض النزال الانتخابي في نسيان (أبريل) المقبل. لكن كل المؤشرات تفيد ذلك، بما فيها وصفه لسبر الآراء حول الموضوع بأنه "مشجع"، قبل أن يستدرك معلقا "ليس من مصلحتي إعلان ترشيحي الآن. على المرء أن يختار اللحظة المناسبة".
يذكر أن استطلاع الشهر الجاري، وضع إيريك زمور في المركز الثاني، لأول مرة، بنسبة تتراوح بين 17 و18 في المائة من الأصوات، متقدما بذلك على مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، عن حزب التجمع الوطني. وهذا إنجاز غير مسبوق في التاريخ السياسي الفرنسي، فلا يعقل أن يحصد شخص هذه النسبة قبل ستة أشهر، دون أن يكون منتميا إلى الطبقة السياسية، بل وقبل أن يعبر عن رغبته في الترشيح بشكل رسمي للانتخابات.
اعترف الرجل نفسه بأن كل شيء سار بسرعة كبيرة، لدرجة أنه ليس في وضع يمكنه بعد من الانخراط حقا في الحملة الانتخابية. ولا سيما أنه لا يملك برنامجا انتخابيا، ولا ينتمي إلى أي حزب سياسي، وإن كان يمثله بخطابه "اليمين الوطني". لكنه ماض، على خطى الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب، في كسر قواعد السياسة، والسحر الذي يمارسه في وسائل الإعلام. فهو صاحب برنامج تلفزي، نجم "سي نيوز"، وكاتب رأي بصحيفة عريقة "لوفيجارو". ناهيك عن البراعة في استخدام الكتب للوصول إلى الجمهور.
لا يزال كتابه الأخير "فرنسا لم تقل كلمتها بعد" يتصدر قائمة المبيعات، وجاء تصميم الغلاف حيث يظهر وهو يقف مع العلم الفرنسي، على غرار كتاب ترمب "أمريكا عظيمة مرة أخرى" (2015). وعلق زمور على هذا التقليد، معتبرا أن الغلاف ليس الشيء الوحيد الذي استلهمه من الرئيس الأمريكي. في إشارة إلى إمكانية الاقتداء به في القفز من التلفزيون إلى السياسة.
يتبني زمور خطابا عاطفيا لحشد الأتباع والمؤيدين، معلنا أن فرنسا في حالة انحدار، وتسير إلى الهاوية، ولم يتردد في التأكيد أمام حشد من الأنصار أن "البلاد تواجه خطر الموت". ويلقي باللوم على التحالف المزعوم بين النخب الاقتصادية والسياسية والثقافية الأصلية و"المهاجرين المسلمين وأحفادهم".
يتعمد الرجل في خطابه الاستفزاز، وتجاوز الحدود بشكل غير مسبوق، إذ يعلن أن الإسلام لا يتوافق مع فرنسا. ويدافع عن نظرية "الاستبدال العظيم"، مفترضا وجود عملية إبدال للأوروبيين البيض بالمهاجرين، التي صاغها الكاتب اليميني المتطرف رونو كامو، بشأن التغيير الديموغرافي في فرنسا وأوروبا، وكانت مصدر إلهام لهجمات العنصريين البيض في نيوزيلندا والولايات المتحدة.
وكان جوابه عن سؤال كيف سيطبق أفكاره إذا أصبح رئيسا لفرنسا؟ إحدى أشهر استفزازاته التي شغلت الرأي العام الفرنسي، حيث قال: إنه "سيفعل ما فعله نابليون بونابرت باليهود أثناء الثورة الفرنسية". في إشارة إلى القانون الذي سنه بونابرت، في 1803، القاضي بحظر إطلاق أسماء غير فرنسية على الأشخاص المولودين في فرنسا.
يتحدث الرجل عن الإسلام والمسلمين مستخدما خطابا عنيفا، فالإسلام دين في "جوهره ثيوقراطي"، والمسلمين مجرد "بدو قادمين من جنوب البحر الأبيض المتوسط"، والمهاجرون "يلوثون العرق الكاثوليكي". ولا يتردد في إسقاط الانتماء "لو زعموا أنهم فرنسيون، من أجل الإقامة على الأراضي الفرنسية، ونيل الحقوق التي يتمتع بها الفرنسيون المقيمون هناك، منذ آلاف السنين، إذا أراد المرء أن يقيم في فرنسا، وأن يكون فرنسيا، فيجب أن يصبح فرنسيا".
واعتبر هذا المتطرف اليميني أن "النساء المحجبات والرجال الذين يرتدون الجلباب هم بروباغندا لأسلمة الشارع الفرنسي"، مؤكدا أن لباسهم أشبه ما يكون "بالبدلة العسكرية لجيش احتلال، يحاول تذكير المهزوم بخضوعه له". وحذر من أن فرنسا "ستختفي" أو تصبح "جمهورية إسلامية" في غضون قرن، إن لم يتصد الفرنسيون للهجرة. مذكرا بأن معركة واترلو، التي شهدت الهزيمة الحاسمة لبونابرت، في 1815، شكلت بداية انحطاط فرنسا. كما أن هزيمتها، في 1871، أمام بروسيا حسمت مصيرها.
لم يسلم حتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قصف الرجل، فهذا الميثاق الإنساني الكوني، لا يعدو أن يكون في نظره، أداة سياسية لتعزيز الهيمنة، "عندما تشكل 1 في المائة من سكان العالم، ويكون لدينا 1.5 مليار إفريقي على الأبواب، يريدون دخول فرنسا، باسم حقوق الإنسان، أقول إن حقوق الإنسان هي موت فرنسا".
ينهج زمور دينامية مبهرة تتمثل في مواجهة النجوم لصنع الحدث، ولفت الانتباه بتخطي الخطوط الحمراء. فعمد أخيرا إلى نقاش لأزيد من ساعتين مع ميشال أونفري الفيلسوف الشهير القادم من اليسار، والمعادي لليبرالية الذي برز أخيرا قريبا من القوميين. وقبل ذلك خاض سجالا إعلاميا حادا مع وزير الثقافة الفرنسي السابق، جاك لانج، رئيس معهد العالم العربي في باريس، وصاحب كتاب "اللغة العربية، كنز فرنسا". ذهب فيه حد اتهام لانج بكونه أداة في يد الإخوان المسلمين، استخدموها في مشروع انتشار اللغة العربية بفرنسا، قصد أسلمة البلاد.
بهذا الصعود المرعب يعيد إيريك زمور ترتيب المشهد السياسي في فرنسا، ولا سيما في صفوف اليمين، ليبدو إيمانويل ماكرون في الوسط، ويدفع زعيم اليمين المتطرف التقليدية مارين لوبان نحو يمين الوسط، فقد جعل الرجل خطابها منطقيا. ويؤكد أن السياسة الفرنسية أضحت انسيابية، بشكل لا مثيل له، حتى صارت غير قابلة للتنبؤ تماما.
أخيرا، نشير إلى أن الرجل أوجد مفارقة عجيبة، مفادها قدرته على تصريف خطابه الشعبوي في خضم ثقافة عالمية، فهو قارئ جيد، يملأ كل خطاباته باقتباسات لمؤلفين شبه منسيين، ويذكر بأحداث تاريخية بعيدة، في دولة مثل فرنسا حيث لا تزال الثقافة تتمتع بالهيبة، ما يمنحه هالة من الاحترام لدى خصومه قبل أنصاره.

الأكثر قراءة