الصين .. صراع مع الزمن لترتيب العالم
بدأ الحديث في أوساط الخبراء، جهرا بعدما كان الأمر همسا، عن احتمالية أفول التنين الصيني، في القريب المنظور، رغم الإجماع القائم اليوم على أن بكين بصدد التفوق على واشنطن، ولا سيما بعد خروجها المذل من أفغانستان، بينما تعزز الصين تمركزها في آسيا، وتواصل انتشارها في إفريقيا. بيد أن توالي المؤشرات، داخليا وخارجيا، ينذر بقرب نهاية "الذروة الصينية".
يفسر هذا التوقع إلى حد بعيد، أسباب عجلة الصين في أمرها، فقد تبين لها أن الرياح التي كانت مواتية لصعودها، على مدار العقود الماضية، تتخذ الآن منحى عكسيا، بما لا يخدم مطلقا المصالح الصينية، لذلك تسارع الزمن مستغلة ما لديها من قوة ونفوذ، من أجل تعديل النظام العالمي، بتثبيت قواعد جديدة لمصلحتها، قبل أن يكتشف العالم برمته بداية مسلسل الأفول الصيني.
ولا سيما بعد تلاشي المتغيرات، المحلية والإقليمية والدولية، التي تفاعلت لتمنح الصين فرصة الصعود نحو العالمية، بعد أن كانت معزولة وغارقة في أتون الفقر والمجاعة، ما بين عامي 1959 و1961، حيث شهدت الصين مجاعة كبرى، أتت على ما بقي من حرب أهلية داخلية، استمرت 23 عاما. وجدت نفسها حليفا للقوى العظمى، بداية عقد السبعينيات، في أعقاب انفتاح الولايات المتحدة الأمريكية عليها، في سياق الحرب الباردة والصراع مع الاتحاد السوفياتي، ما عجل باندماجها في النظام العالمي، وسهل وصولها سريعا إلى الأسواق والأموال الأجنبية.
تحولات داخلية جذرية
تواجه الصين حاليا ندرة حادة في الموارد، بعدما كانت عملية إمداد الصناعة بالمواد الخام يسيرة جدا، علاوة على قرب نفاد مواردها المائية، فنصف الأنهار اختفى، وتسبب التلوث، حسب تقارير الحكومة الصينية، في جعل 60 في المائة من المياه الجوفية غير صالحة للاستهلاك البشري، إضافة إلى تدهور الأمن الغذائي، بعد تدمير 40 في المائة من الأراضي الزراعية، بسبب الإفراط في استخدامها، نتيجة إهمال سياسات حماية البيئة. وباتت الصين اليوم أكبر مستورد للمنتجات الزراعية في العالم، إذ تتوقع وزارة الزراعة الأمريكية أن تستورد الصين أكثر من 1/3 محصول الذرة هذا الموسم.
وتتجه الصين نحو تسجيل أسوأ انحدار ديموغرافي من نوعه في التاريخ، في وقت السلم لا الحرب، بعد أن حظيت بتركيبة سكانية مثالية بداية القرن الحالي، حيث وصل عدد السكان النشيطين إلى عشرة أمثال المواطنين المسنين، فيما المعدل العالمي لا يتجاوز خمسة تقريبا في جل الاقتصادات الكبرى. تحققت هذه الميزة السكانية الفريدة نتيجة حث الحزب الشيوعي الصيني النساء، أواسط القرن الماضي، على إنجاب كثير من الأطفال، للتغطية على خسائر الحرب الأهلية والمجاعات، ما أدى إلى ارتفاع التعداد السكاني 80 في المائة، خلال ثلاثة عقود فقط، قبل أن تتراجع، بعد فرض سياسة الطفل الوحيد، ما جعل التركيبة السكانية على أعتاب الانكماش.
باختصار، وبلغة الأرقام، يتوقع أن تفقد الصين، خلال الـ15 عاما المقبلة ما يفوق 70 مليون شخص في سن العمل، نظير ذلك يشهد المسنون ازديادا بنحو 130 مليون شخص، ما يعني خسارة في اليد العاملة والموارد الضريبية، وزيادة في أصحاب المعاشات والتقاعد، مع توقع استمرار النتائج ذاتها حتى ما بين عامي 2035 و2050، مع انسحاب 105 ملايين نشيط من سوق الشغل، والتحاق 64 مليون شخص بفئة المسنين.
سياسيا، يعيش النظام السياسي الصيني على وقع التصدعات، ما دفع الحزب الشيوعي إلى القيام بحملات مضادة على المعارضين والمنشقين بتهم الفساد، أملا في إطالة عمر الحزب في الحكم، فقد شرع النظام، منذ 2009، في استهداف مختلف الفئات المعارضة له "الصحافة الحرة، ووسائل التواصل الاجتماعي، الطلاب..."، وبلغ الأمر حد إصدار اللجنة المركزية للحزب أمرا تنفيذيا "الوثيقة 9" تطالب فيه الأفراد بالوشاية بأي تأييد ظاهر للقيم الغربية "الديمقراطية، الصحافة، الليبرالية..." لدى المواطنين الصينيين.
مجتمعيا، تفيد دراسة لمعهد هورون بأن النخبة الاقتصادية الصينية تضع رجلا في الداخل وأخرى في الخارج، فنحو 64 في المائة من أثرياء الصين، المقدرين بـ393 شخصا خضعوا للدراسة، يخططون للهجرة أو هاجروا فعلا، علاوة على إصرار معظمهم على إرسال أبنائهم للدراسة في الخارج، ما يثير التساؤل عن مستوى التعليم العالي في الصين. وتذهب تقارير صحافية إلى تنامي ظاهرة السياحة من أجل الولادة، حيث شهدت مناطق في جنوب كاليفورنيا ولادة آلاف الأطفال من أبناء رجال الأعمال الصينيين، ما يمنح هؤلاء الأطفال الجنسية الأمريكية.
تقلبات خارجية كبرى
اشتكى نائب وزير الخارجية الصيني من "حملة حكومية شاملة هدفها تركيع الصين"، خاصة مع إصرار اقتصادات العالم الكبرى على عزل شبكات اتصالاتها عن التأثير الصيني، إذ تبين أن دولا مثل أستراليا والهند واليابان وغيرها تسعى جاهدة إلى إبعاد الصين عن سلاسل الإمداد الخاصة بها، كما أن تداعيات دبلوماسية "فخ الديون"، وما رافقها من إلغاء أو إيقاف دول مشاريع صينية كبرى، خدش صورة الصين لدى عديد من الحكومات والشعوب، وفتح النقاش حول موضوع الاستعمار الجديد بين نخب هذه الدول، "الاستعمار الاقتصادي".
ما كان الرجل ليصرح بهذه الشكوى علنا، لولا استمرار انخفاض معدل نمو الناتج المحلي الرسمي من 15 في المائة 2007 إلى 6 في المائة 2019، وجاءت الجائحة لتهبط بالنمو إلى ما يزيد بقليل على 2 في المائة 2020، وانخفضت الإنتاجية بدورها، المكون الأساس لصناعة الثروة، 10 في المائة بين 2010 و2019، في أسوأ هبوط تسجله قوة عظمى، منذ الاتحاد السوفياتي في عقد الثمانينيات.
حرصت الصين على مدار 40 عاما من صعودها، على تجنب التطويق الاستراتيجي، باعتماد أسلوب يقلل من طموحاتها العالمية، قبل أن تجد نفسها في الأعوام الأخيرة، وجها لوجه مع الولايات المتحدة الأمريكية، راعيتها من أجل الصعود، بسبب سياساتها في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، ما دفع واشنطن إلى فرض رسوم جمركية، اعتبرت الأقوى منذ الحرب العالمية الثانية، وتطبيق أشد القيود على الاستثمار الأجنبي.
وامتد التطويق نحو تشكيل حلف أمني رباعي، يضم أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة الأمريكية، بوصفه محورا للتعاون المناهض للصين بين أقوى الديمقراطيات في منطقة الهندي-الهادئ، علاوة على إنشاء التحالف الأنجلوساكسوني، الأمريكي البريطاني الأسترالي، لوقف الزحف الصيني، على الرغم من عدم تبلور ملامح اشتغاله بعد، فإنه يبقى سيفا مسلطا على رقبة الصين.
لكل ما سبق، لن تتردد الصين في الإلقاء بكامل ثقلها لحصد أكبر النتائج، وإعادة ترتيب العالم بشكل يراعي حجمها ووزنها حاليا، قبل الدخول في مرحلة التقهقر والأفول، لكن إكراه الزمن ليس قطعا في مصلحة بكين، ما يهدد بظهور سلوكيات غير سليمة من شأنها أن تقود إلى ما لا تحمد عقباه في مناطق التوتر بين النسر والتنين.