فرنسا وبريطانيا .. معارك الحاضر بعبق التاريخ
يتجه الصراع المحتدم بين فرنسا وبريطانيا إلى تأكيد مقولة إن "التاريخ يعيد نفسه"، فالتنافس الشرس غير قادر على تورية العداوة الدفينة في العلاقات بين البلدين، ما يفسر الألغام التي تنفجر بين الفينة والأخرى في باريس أو لندن، التي تتولى بروكسل، قبل حدوث بريكست، معالجتها داخل أروقة وهياكل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، خيار لم يعد قائما بعد واقعة الانسحاب.
تعج كتب التاريخ بوقائع الصراع بين فرنسا وبريطانيا، لعل أشهرها حرب المائة عام، التي امتدت ما بين 1337 حتى 1453، وانتهت بنصر فرنسي في معركة كاستيلون. والحرب الأنجلو فرنسية في أواخر القرن الـ18، بين الطرفين وحلفائهما (1778 و1783)، آلت بدورها لمصلحة فرنسا، بعد توسيع حلف المشاركين في صفها (إسبانيا، هولاندا، أمريكا...)، مستغلة توتر علاقاتهم بالتاج البريطاني آنذاك.
من المفارقات العجيبة، في تاريخ الصراع بين البلدين، انقلاب الحلفاء، فأمريكا التي اختارت القتال إلى جانب باريس، في الحرب الأنجلو فرنسية، على الرغم من انشغالها بحرب الاستقلال الأمريكية أو ما يعرف باسم "الحرب الثورية". تشد في الوقت الراهن عضد لندن في مختلف معاركها على الصعيد الدولي، بدءا من واقعة الخروج وصولا إلى حرب المياه والصيد، وبينهما أحداث كثيرة ناصرت فيها واشنطن لندن بلا مواربة.
كانت خسارة صفقة الغواصات، وما تلاها من حلف أمني أنجلوساكسوني، يدعم مقولة "بريطانيا عالمية بعيدا عن أوروبا"، فرصة مثالية أمامها، لرد بعض الدين لفرنسا بشأن مواقفها المتصلبة إبان التفاوض للخروج من الاتحاد الأوروبي. غصة لم يتأخر الرد الفرنسي عنها طويلا، بعدما أيقنت باريس أن لندن تفضل لعب دور ثانوي في شراكة مع الولايات المتحدة على القيام بدور حقيقي في شراكة مع القارة الأوروبية. وكأن التاريخ توقف عند حادثة انفجار رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل في وجه الرئيس الفرنسي شارل ديجول، قائلا: إذا ما اضطرت بريطانيا إلى الاختيار بين أوروبا وعرض البحر، فإنها ستختار دوما عرض البحر.
هذا البحر سيتحول إلى نزاع بين الطرفين، بعد اتهام فرنسا بريطانيا بعدم الالتزام بمقتضيات اتفاق ما بعد بريكست، الخاصة بتنظيم عمليات الصيد البحري، ومنح التراخيص للصيادين الفرنسيين ولا سيما بعد تصريح سلطات جزيرة جيرزي أنها رفضت 75 من الطلبات المقدمة من سفن الصيد الفرنسية من أصل 170 طلبا. ووافق على 98 في المائة من طلبات الترخيص المقدمة من جانب سفن الاتحاد الأوروبي، للصيد في مياه المملكة المتحدة.
ترى باريس القرار منحازا ضدها، إذ يحتم على نحو نصف الأسطول الفرنسي مغادرة المياه البريطانية. كما أنه يخرق بنود اتفاقية بريكست التي تنص على حق السفن في الصيد في المياه البريطانية، شريطة الحصول على رخصة، بمجرد إثبات أنهم كانوا يصطادون لمدة خمسة أعوام في مياه الجزيرة. كما أن سلطات لندن تمعن في المماطلة، فمدة الانتظار للحصول على ترخيص، بحسب وزيرة الشؤون البحرية الفرنسية، تصل أحيانا إلى زهاء تسعة أشهر.
دفع هذا باريس إلى الرد سريعا، فقد جاء على لسان كليمون بون، وزير الدولة للشؤون الأوروبية بأن "لندن لا تفهم سوى لغة القوة" ما جعل وزارتي الشؤون البحرية والأوروبية، تعلنان في بيان مشترك، عن اتخاذ تدابير ضد بريطانيا، ستدخل حيز التنفيذ ابتداء من يوم غد، 2 تشرين الثاني (نوفمبر)، من قبيل منع قوارب الصيد البريطانية من إفراغ حمولاتها في الموانئ الفرنسية، وتكثيف علميات التفتيش الحدودية على الشاحنات المتجهة والمغادرة لبريطانيا، وتعزيز مراقبة الضوابط الصحية على البضائع القادمة منها.
وتذهب باريس أكثر من ذلك، ما يعبر عن درجة غضبها، بالحديث عن حزمة ثانية من الإجراءات قيد الدراسة، دون استبعاد احتمال مراجعة إمدادات الطاقة المقدمة إلى المملكة المتحدة. تندر هذه العقوبات، إن كتب لها التنفيذ، بمفاقمة الأزمة الاقتصادية في بريطانيا، التي تعاني بالفعل نقص العمالة، وارتفاع أسعار الطاقة قبل أعياد الميلاد.
يذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تهدد فيها باريس بالإقدام على هذه الخطوة، حيث سبق للجزيرة نفسها القريبة جدا من ساحل غرب فرنسا، نحو 85 كلم فقط عن فرنسا، وأزيد من 136 كلم جنوب ساحل بريطانيا، أن كانت قبل أشهر سبب في تحريك كل من البحرية البريطانية والفرنسية سفنهما الحربية في محيط الجزيرة، وكادت المواجهة أن تحدث لولا تدخل الاتحاد الأوروبي بين الطرفين.
تفتقد هذه الوساطة اليوم بقوة، مع تزايد حدة التصعيد، وتنامي المخاوف من تكرار واقعة "حرب القد" التي وقعت بين بريطانيا وآيسلندا في بحر الشمال، وامتدت من 1958 وحتى 1976، وتخللتها صدامات مسلحة بين قوارب الصيد البريطانية والآيسلندية، مع تدخلات بين الفينة والأخرى من سلاح البحرية لحماية الصيادين.
تبقى ورقة الصيد مجرد معركة لتكسير العظام بين الطرفين، ومادة إعلامية موجهة للاستهلاك الداخلي، قصد تنفيس الضغط المتولد عن الحروب الحقيقية المحتدمة بين الطرفين، بعيدا عن الأضواء، وفي صمت مطبق. لعل أحدثها التنافس حول جذب الاستثمارات، فقد استقبل الرئيس الفرنسي، منتصف العام الجاري، نحو300 رجل أعمال، في مسعى لنقل الأموال الأوروبية، من الحي المالي في لندن، نحو المراكز المالية في القارة العجوز. وردت عليه لندن باحتضان القمة العالمية للاستثمار، حضرها كبار رجال الأعمال في العالم، بعائد استثماري يقدر بنحو12 مليار دولار.
وقبل ذلك، حرب اللقاحات التي أحرجت الفرنسيين أمام نظرائهم الأوروبيين، ولا سيما نجاح المملكة المتحدة في تصنيع لقاء "أكسفورد-أسترازينيكا"، ثم ترويج الحكومة البريطانية لخطاب مفاده أن استفادة البريطانيين من اللقاح قبل غيرهم هو بفضل بريكست ما أثار غضب الأوروبيين، لدرجة التهديد بقطع وصول اللقاحات المصنعة في أوروبا إلى بريطانيا، وحديث دول عن تحفظها بخصوص استخدام اللقاح البريطاني.
حتى مسألة المناخ لم تسلم من الصراع بين الغريمين، فبعد احتضان باريس للدورة 21 لقمة المناخ 2015، تستعد المملكة المتحدة لاستقبال الدورة 26 في اسكتلندا، وتراهن ببث رسالة إلى العالم، مفادها حضور بريطانيا في المشكلة المناخية، وحرصها الشديد على الانتقال نحو الطاقات النظيفة، ما يعني مزيدا من جذب الاستثمارات في هذا المجال، ولا سيما بعد إعلان الأمريكي بيل جيتس عن المشاركة في تمويل مشاريع خضراء مع الحكومة البريطانية بقيمة 400 مليون دولار.
يظهر أن المعارك لا تهدأ بين الطرفين إلا لتنطلق بقوة أكبر، فالمجاملات في المؤتمرات والابتسامات أمام وسائل الإعلام لا تقوى على إخفاء عداوة ضاربة في التاريخ بين البلدين. حقيقة أدركتها أخيرا العديد من الدول داخل الاتحاد الأوروبي، ما يفسر تحفظها في مجاراة باريس في تصعيدها بشأن ملف الصيد، فحسابات فرنسا محكومة بعبق التاريخ والضغط الجيواستراتيجي وإكراهات الاقتصاد.