دول الاعتدال العربي والتصدي لثالوث الشر

دول الاعتدال العربي والتصدي لثالوث الشر
المزاج العربي المعتدل يميل إلى التصدي للتدخلات الإيرانية في شؤون دول عربية.

تشهد منطقة الشرق الأوسط والمنطقة بأسرها فصولا متقلبة من التحولات السياسية، عنوانها الأبرز "مقعد شاغر لمن يريد أن يشغله"، بعد أن خففت واشنطن من نفوذها في كثير من بقاع العالم، لتتفرغ للحد من النفوذ الصيني المنطلق بسرعة الصاروخ في شتى المجالات، إذ تزاحمها بكين على قيادة العالم، ولاستغلال هذه الفرصة ظهرت محاولات من هنا وهناك لملء الفراغ الأمريكي، في ظل محاولات لمحاربة ثالوث الشر المتمثل في التمدد الإيراني، والإخوان المسلمين، والإرهاب، وذلك من وجهة نظر عربية معتدلة، وأبرز دعاة هذا المنهج المملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية، والأردن، والإمارات، إذ تحاول دول الشرق الأوسط رسم تحالفات جديدة في خطوة منها إلى تنظيم أمورها ومصالحها، بعد أن أظهرت الدلائل أن الولايات المتحدة الأمريكية في طريقها إلى كف يدها عن المنطقة، ما يعزز فرص المشروع الإيراني في الدمار والخراب، إضافة إلى إتاحة بصيص أمل للأتراك بأحياء أمجادهم القديمة، فيما تحاول فرنسا مد جسور جديدة تتيح لها المجال في المنطقة بعد أن فقدت كثيرا من مزاياها كدولة كبرى.
المؤشرات التي اعتمدت عليها الدول لم تأت من فراغ، فالانسحاب الأمريكي من أفغانستان والعراق وشمال شرق الفرات بين سورية والعراق، ومناطق كانت خاضعة لسيطرتها بشكل مباشر أو لسيطرة حلفائها، دليل على استراتيجيتها الجديدة أو على الأقل استراتيجية الإدارة الحالية، لكن الإدارة السابقة هي أول من بدأ الانسحاب من المناطق ذات الأغلبية الكردية في المناطق الحدودية ما بين كل من تركيا وسورية والعراق، فهي اليوم على بعد خطوة من أن تحزم أمتعتها فاتحة الباب أمام دول المنطقة لصناعة مستقبل علاقاتها في ظل تغول إيراني طائفي النفوذ، هشم عددا من الدول العربية بتدخلاته، كما أن المنطقة المرهقة باحتلال إسرائيلي لأراض عربية في فلسطين وسورية تواجه مخاطر تمدد آخر تركي الهوية وعثماني الطموح، متنكرا في الزي الإسلامي القديم وأمجاد الدولة العثمانية.
الطموح التركي لم يكن وليد اليوم، مع وصول حزب "العدالة والتنمية" بزعامة رجب طيب أردوغان إلى الحكم في تركيا، تبنى قادة ومفكرو الحزب منهجا يقوم على ضرورة إحياء دور تركيا الإسلامي، الذي تعرض للتجاهل والإهمال منذ عهد مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، ومنذ أكثر من عقد، أدرك أردوغان ومنظرو حزبه السياسي أن باب الاتحاد الأوروبي بات موصدا أمام كل ما قدمته تركيا العلمانية، خلال الأعوام القليلة الماضية، لتقوم تركيا بشن ثلاث عمليات توغل عسكرية في سورية، وإرسال إمدادات ومقاتلين إلى ليبيا، ونصب قواعد عسكرية غير شرعية في شمال العراق بحجة محاربة متمردين أكراد من حزب العمال الكردستاني، إضافة إلى أنها نشرت قواتها البحرية في شرق المتوسط لتأكيد مزاعمها بشأن حقها النفطي في شرق المتوسط.
كما وسعت أنقرة عملياتها العسكرية ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني شمال العراق، وأرسلت تعزيزات عسكرية إلى آخر معاقل المعارضة السورية في إدلب، وأخيرا، قدمت مساعدات عسكرية وعناصر مرتزقة سوريين لدعم أذربيجان في حربها ضد أرمينيا من أجل استعادة إقليم ناغورني قره باغ، الذي انتهى لمصلحة أذربيجان باستسلام أرمينيا، ولديها اليوم وجود عسكري مباشر في قطر والصومال وأفغانستان، وقوات لحفظ السلام في البلقان، ويعد وجودها العسكري العالمي في الوقت الحالي الأكبر منذ أيام الإمبراطورية العثمانية، لكن المشروع التركي فقد بريقه إلى حد ما بعد فشل ما يسمى بثورات الربيع العربي، التي هدفت إلى إحلال أنظمة الإخوان المسلمين مكان الأنظمة في بعض الدول العربية، ما شكل حالة مناعة عربية متراكمة برفض هذا التغيير السلبي على الرغم من حدوثه في بعض الفترات في بعض الدول مثل تونس ومصر.
شهدت الفترة الأخيرة برامج ومشاريع دول وتحالفات لردم الصدع، على خلفية انشغال الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بمواجهة تبعات الأزمات الاقتصادية المتلاحقة وصولا إلى جائحة كورونا الحالية، إذ أصبحت مشاركتهما في الشؤون الدولية أكثر تركيزا على القضايا محل اهتمام الرأي العام الداخلي، ومثل ذلك فرصة لا تعوض لدول تحتل الصف الثاني في مراتب القوة العالمية، مثل تركيا، لكي تتقدم وتحصل على مكانة متقدمة في بنية النظام العالمي الراهن، باعتبار رفع مكانة تركيا في الخارج - على خلاف القوى الغربية - يمثل رافعة لتشتيت الاهتمام بالمشكلات الداخلية المتراكمة لمصلحة قضايا وأزمات السياسة الخارجية، مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تعد فرنسا نفسها القوة الأوروبية الرئيسة المعنية والخبيرة بالشرق الأوسط، وبما يؤهلها للعب دور أكبر في ملفات المنطقة الساخنة.
تدرك فرنسا أنها فقدت كثيرا من نفوذها وأصبحت قوة دولية متوسطة، وأن تجديد الدور الفرنسي دوليا يتطلب مبادرات جريئة ومختلفة عن السياقات التقليدية، التي غالبا ما اعتمدت التركيز على الجغرافيا الأطلسية والدول الفرانكفونية، وهناك عاملان شجعا على البحث عن اتجاه جديد، الأول، مجيء رئيس فرنسي شاب غير محسوب على التشكيلات التقليدية لليمين واليسار، ويتسم بالديناميكية والثقة ويسعى للعب دور دولي أكبر، والثاني الانكفاء الأمريكي الذي ترجمته سياسة "أمريكا أولا" للإدارة السابقة، التي مثلت انعكاسا لتصاعد النزعة الانعزالية الأمريكية من جهة، وسياسة تقليل الانغماس في الشرق الأوسط من جهة أخرى، لمصلحة التركيز على الصراع مع الصين، إضافة إلى عودة روسيا إلى المنطقة عبر البوابة السورية، التي مثلت حافزا للفرنسيين لمحاولة البحث عن دور في المنطقة لمواجهة التأثير الروسي والتركي.
المزاج العربي المعتدل يميل إلى التصدي للتدخلات الإيرانية في شؤون دول عربية، خصوصا أن هذا التمدد ماض في التوسع على حسابات أمن واستقرار دول أخرى، بناء على اعتبارات طائفية قومية، لكن كفة التوازن العربية يرجحها ثقل دول عربية مثل السعودية ومصر، إضافة إلى دول أخرى تؤدي دورها استنادا إلى علاقاتها المتينة بين هاتين الدولتين الكبيرتين، لما تحظيان به من ثقل عالمي على مستويات التسليح، والاقتصاد، والموقع الجغرافي، إضافة إلى دعم وتأييد شبه مطلق من دول عربية أخرى ذات تأثير مثل الأردن والإمارات والعراق ودول المغرب العربي المستقرة سياسيا كالمغرب والجزائر وبدرجة أقل تونس.
بشكل أو بآخر تمكنت السعودية من كف يد إيران في اليمن وتقليص نفوذها هناك، بدعم التحالف العربي، الذي تقوده، من خلال دعم الشرعية اليمنية، وخنق جماعة الحوثي، التي تقود انقلابا على الدولة اليمنية، وتهيمن على جزء كبير من البلاد بدعم وتمويل إيراني مفتوح، مهددة طرق الملاحة الدولية، التي يمر منها أكثر من ثلثي التجارة العالمية عبر مضيق باب المندب، الذي يعبره أكثر من 21 ألف قطعة بحرية سنويا، لكن بفضل القبضة السعودية المحكمة على الأوضاع هناك انحسرت الممارسات الحوثية على أماكن محددة، لكن واشنطن المنسحبة من دول كانت قد دخلتها بحجج متنوعة، لم يختلف موقفها من جماعة الحوثي كثيرا، على الرغم من تورط الجماعة مع النظام الإيراني حتى أخمص قدميها، بإزالة تصنيف الإدارة الأمريكية السابقة في عهد الرئيس الجمهوري دونالد ترمب، التي صنفت الجماعة بأنها "إرهابية"، ليتم فرض عقوبات عليها، لكن التحالف العربي قلم أظافر هذه الجماعة، ما أضعف نفوذها وأفشل مشروعها التمددي الطائفي، لتعطي الرياض الضوء الأخضر للتوافق العربي ببدء المفاوضات.
تسعى مصر والأردن والعراق وبتأييد سعودي إلى بسط سيطرة الدولة العراقية على أراضيها، من خلال مشروع "المشرق الجديد" الذي طرحه مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء العراقي، الذي شكل حدثا نوعيا في واقع المنطقة التي تشهد انقسامات وتجاذبات بين الأطراف المختلفة، وهو ما يؤشر إلى طبيعة التحديات، التي تواجه المشروع والصعوبات التي قد تعترض مساره، ورغم العنوان الاقتصادي للمشروع إلا أنه ينطوي على أبعاد سياسية واستراتيجية، حيث إن أطرافه قوية وقادرة ولديها الرغبة والإرادة، لتحويل المشروع إلى مشروع جيوسياسي قادر على إثبات حضوره في معادلات المنطقة وتوازناتها.
يقوم مشروع "المشرق الجديد" على أساس الربط بين مصر التي تمثل كتلة سكانية كبيرة، والتي لديها خبرات في عديد من المجالات، ولديها موقعها على البحر المتوسط، والعراق الذي يمتلك موارد نفطية كبيرة، والأردن الذي يملك مزايا اقتصادية جيدة، إذ يركز المشروع على التعاون الاقتصادي وتعزيز الجوانب الاستثمارية والتجارية بين الدول الثلاث في خطة ستكون تدفقات رأس المال والتكنولوجيا فيها أكثر حرية، ويتوقع أن يشجع الدول الأخرى على ضخ استثمارات جديدة في المنطقة.
ويجري بناء التحالف على تفاهمات اقتصادية بين الدول الثلاث التي يبلغ الناتج المحلي لها معا نحو 570 مليار دولار، بحسب بيانات البنك الدولي، فالمشروع سبق أن طرحه عادل عبدالمهدي رئيس الحكومة العراقية السابق، وعقدت الدول الثلاث قمتين سابقتين: الأولى في القاهرة في 2019 بمشاركة الرئيس عبدالفتاح السيسي، والملك عبدالله الثاني بن الحسين، وعادل عبد المهدى رئيس الوزراء العراقي "السابق"، والقمة الثانية عقدت في 2020 على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وضمت الرئيس المصري والملك الأردني والرئيس العراقي برهم صالح.
كما شهدت بغداد انعقاد قمة "التعاون والشراكة" برعاية عراقية-فرنسية، وبمشاركة جميع دول جوار العراق "عدا سورية"، إضافة إلى مصر والإمارات وقطر، ومثلت القمة أهم حدث على مستوى العلاقات الخارجية الإقليمية في العراق منذ انعقاد القمة العربية في بغداد 2012، كما أنها جسدت طبيعة الدور الذي يسعى العراق إلى لعبه إقليميا ودوليا في ظل النهج الحالي لحكومة مصطفى الكاظمي والرئيس برهم صالح، كنقطة التقاء محايدة وفعالة في محيطها الإقليمي المنقسم.
إلى ذلك، قدمت الأردن مبادرة جديدة لحل الأزمة السورية، في محاولة منها لاختراق جدار الأزمة بعد انسداد أفق الحل نتيجة تباعد مواقف الفاعلين الداخليين والخارجيين، والتعقيدات التي تحيط بالملف السوري، وفشل حل الأزمة عبر محطات جنيف وآستانة وفيينا وسوتشي، وقبلها مؤتمرات "أصدقاء سورية"، ليتم العمل على إيجاد ديناميات جديدة تؤدي إلى تفعيل الحل السياسي عبر خطوات تراكمية، أو مبدأ "الخطوة خطوة" على مراحل، وتختبر هذه الخطوات جدية الأطراف، خاصة النظام السوري، وتبدأ من القضايا الأقل إشكالية، وصولا إلى الحل السياسي كذروة لهذه العملية.
وتتخذ المبادرة الجانب الإنساني مدخلا للعبور إلى بقية القضايا الأخرى في الملف السوري، باعتبار هذا الجانب أكثر إلحاحا، إضافة إلى وجود تقاطعات مشتركة وتفاهمات سابقة بين الفاعلين بخصوصه، تحديدا أمريكا وروسيا، ما يجعله مقدمة منطقية لأي تعاون في الملف السوري، فيما يكمن الهدف الرئيس في استعادة سورية إلى الحاضنة العربية، وتهميش الدور الإيراني، الذي سبق أن فرض سطوته على المشهد السوري، بعد دعم النظام السوري بالمال والسلاح والمقاتلين الطائفيين في وجه الثورة السورية.
وفي سياق متصل، نجحت الأردن في عقد اجتماع فني رباعي لوزراء الطاقة في سورية ولبنان ومصر، لبحث وصول الكهرباء والغاز إلى لبنان عبر سورية، في خطوة لم تخل من الدلالات السياسية على صعيد العقوبات المفروضة على دمشق، ويبدو أن عمان نجحت - بحسب مراقبين - في كسر الحصار المفروض على سورية تحت ضغط الاستجابة لأزمة الطاقة، التي يعيشها لبنان، في وقت يتوافر فيه الفائض من إنتاج الطاقة الكهربائية في الأردن، وتوفر البنية التحتية شبه الجاهزة لعبور الغاز المصري من الأردن وسورية وصولا إلى لبنان، الذي يشهد منذ أشهر شحا في المحروقات ينعكس على مختلف القطاعات، بما يشمل المستشفيات والأفران والاتصالات والمواد الغذائية، وذلك على وقع أزمة اقتصادية تتفاقم منذ عامين، صنفها البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ 1850، كما تعاني سورية بدورها أزمة طاقة كهربائية حادة جراء النزاع الدائر فيها منذ 2011، فاقمتها العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، فيما يتطلب تطبيق هذه الخطة من الولايات المتحدة استثناء لبنان والأردن من العقوبات الأمريكية المفروضة في إطار قانون قيصر، الذي صمم لمعاقبة النظام السوري.
وضع المشهد اللبناني لا يختلف كثيرا عن العراق وسورية، لكن ما يميزه سلبا هو سيطرة إيرانية مفرطة على القرار اللبناني في ظل تساهل أمريكي ودولي مع التجاوزات، التي يقوم بها العهد الجديد في لبنان، المكون من التحالف الشيعي المسيحي بين حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر، الذي يقوده الرئيس اللبناني، إذ بلغ التساهل الأمريكي حد اتهام أعضاء جمهوريون في الكونجرس الأمريكي إدارة بايدن بحجب تقرير عن إمبراطورية حزب الله المالية، ويعد هذا التقرير، الذي كلفت بإعداده وزارتا الخارجية والدفاع، أحد المقتضيات التي نص عليها قانون تعديلات منع التمويل الدولي لحزب الله الصادر في 2008، إذ إن إدارة بايدن تدرس احتمال رفع العقوبات الاقتصادية عن لبنان الذي يسيطر عليه حزب الله، فيما ترزح البلاد تحت وطأة أزمة نقدية هائلة، لكن واشنطن تعد الهدف من هذه التصرفات إرساء توازن قوى إقليمي قادر على إحداث تغيير من دون تدخلات خارجية، بعد الانسحاب العسكري الأمريكي.

الأكثر قراءة