السيادة الوطنية تقف حائلا أمام جيش أوروبي مشترك
تجدد النقاش أخيرا حول مسألة "الأمن الأوروبي"، عقب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الذي لم يترك خيارا آخر للقادة الأوروبيين غير مسايرته بتنظيم علميات إجلاء، تاركين وراءهم آلاف المواطنين والحلفاء داخل أفغانستان، واحتدم أكثر بعد توجيه الثلاثي الأمريكي البريطاني الأسترالي رسالة خاصة إلى فرنسا، ومن خلالها إلى دول الاتحاد الأوروبي، بعد تشكيل التحالف الأمني "أوكس".
تعاطى الأوروبيون مع دعوات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أواخر 2018، بإنشاء جيش أوروبي حقيقي للتصدي لكل من الصين وروسيا، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، بجدية كبيرة مع موضوع إقامة منظومة عسكرية أوروبية مستقلة، بعيدا عن مظلة حلف الناتو، بعد توالي هذه الوقائع. فمتغيرات الجغرافيات السياسية المتلاحقة لقنت الأوروبيين درسا مفاده وجوب الاعتماد على النفس، فيما يتعلق بالدفاع عن الاتحاد الأوروبي.
تجدر الإشارة إلى أن البدايات الأولى للموضوع، ليست وليدة اللحظة، فقد سبق للرئيس الفرنسي شارل ديجول أن نبه إلى أن "أوروبا تشكل كتلة استراتيجية موحدة، إما أن تدافع أوروبا عن نفسها بنفسها، أو لا يكون لديها دفاع. هنالك حلف الناتو، ما الناتو؟ إنه يضم أمريكا وأوروبا وآخرين، لكنه لا يعني دفاع أوروبا عن أوروبا، إنه دفاع أمريكا عن أوروبا، إننا نحتاج إلى دفاع أوروبا عن نفسها، وعليها أن تكون حليفة لأمريكا".
وما ذلك إلا محاولة لتجسيد فكرة طرحت للتداول، 1950، تسعى إلى إقامة "مجتمع الدفاع الأوروبي"، بالجمع بين فرنسا وإيطاليا وألمانيا الغربية في عمل عسكري واحد، لكن المشروع تعثر نتيجة تحفظ البرلمانين الفرنسي والإيطالي عليه، ثم إن الفكرة الحلم، أي تأسيس جيش أوروبي موحد، ليست بالشيء الجديد في أدبيات الاتحاد الأوروبي، فقد وردت في المادة 42 من معاهدة الاتحاد الأوروبي، غير أن تحقيقها يقتضي إجماع الدول الأعضاء، وتخليها عن بعض من السيادة الوطنية.
هذه المسألة أعيد التداول بشأنها بين وزراء الدفاع في الاتحاد الأوروبي، بعدما استشعر الجميع راهنية الأمر، ولا سيما عند البحث في وثيقة "البوصلة الاستراتيجية" المقبلة، المحددة لأولويات الاتحاد الأوروبي الأمنية والدفاعية، بحلول 2030. عد جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد، الأمر ضروريا، في ضوء المستجدات، فعلق بقوله "تجب الاستفادة من دروس هذه التجربة.. لم نتمكن، كأوروبيين، من إرسال ستة آلاف جندي للتمركز حول مطار كابول لتأمين المنطقة، تمكنت الولايات المتحدة من ذلك، ولم نتمكن نحن"، ويضيف "إن دول الاتحاد، يجب أن تكون لديها قوة تدخل أولية، حتى نكون قادرين على التدخل السريع".
لقد كشف ما جرى في أفغانستان، حسب وزير الدفاع السلوفيني، مدى الاعتماد على الولايات المتحدة في الجوانب العسكرية، على هذا الأساس، يجب على الاتحاد الأوروبي إذن أن يكون قادرا على نشر السلام، وتسريع عملية صنع القرار في مؤسساته، فالموارد المالية موجودة، تنقصها فقط الإرادة السياسية لبناء القدرات اللازمة للتصرف بشكل مستقل دفاعيا. من جهته، عد الجنرال كلاوديو جرازيانو رئيس اللجنة العسكرية للاتحاد الأوروبي، "الأوضاع في أفغانستان وليبيا والشرق الأوسط، تظهر أن التحرك لإنشاء قوة عسكرية أصبح أمرا ضروريا".
يدافع أنصار فكرة إنشاء الجيش الأوروبي عن الخيار، معتبرين اتحادا أوروبيا بدون قوة عسكرية تسنده، لا يمكنه أن يكون قوة عظمى على الساحة الدولية، وأن التكامل الاقتصادي والسياسي الذي يوفره الاتحاد الأوروبي، لا يسمح لأوروبا بفرض وجودها على طاولة الكبار، وهو ما يستوجب التفكير بشكل متزايد في التكامل العسكري، بإقامة جيش أوروبي متكامل.
يذكر أن القارة العجوز شهدت عدة مشاريع دفاعية، تعكس مدى الحاجة إلى سياسات دفاعية أوروبية، فقد سبق للرئيس الفرنسي أن دفع، في حزيران (يونيو) 2018، باتجاه "مبادرة التدخل الأوروبي"، التي ضمت 11 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى بريطانيا، وذلك قصد إيجاد إطار عمل أوروبي خالص بعيدا عن حلف الناتو، وخارج أروقة الاتحاد الأوروبي الذي يتسم بالبيروقراطية.
وقبل ذلك، وقع 23 عضوا من إجمالي أعضاء النادي الأوروبي، على اتفاقية "بيكو"، أي "اتفاقية التعاون الدفاعي المنظم"، التي وصفت حينها من باب التأدب فقط، بأنها "ذات مهام تكميلية لحلف الناتو وليست بديلا عنه"، وإن كانت تصريحات الممثلة العليا للسياسات الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي حين ذاك توحي بغير ذلك تماما.
تيقن الأوروبيون يقينا مطلقا بأن "أوروبا لا يمكنها الاعتماد على الولايات المتحدة لحمايتها، وأن عليهم تقرير مصيرهم بأيديهم"، خاصة بعد واقعة "بريكسيت" التي أفقدت الاتحاد الأوروبي دولة نووية، ثم إن ما حدث في أفغانستان، بين أن "وجود قوات دفاع أوروبي أصبح أكثر من ضرورة اليوم".
تبقى معطيات الواقع "التدخل الأوروبي، بيكو..." دون مستوى إنشاء جيش أوروبي بالمعنى الحرفي، فالمساعي من أجل تطوير قدرات الجيوش الأوروبية قائمة، بشرط بقائها مستقلة، ففي 2016، صادق الاتحاد على استراتيجية أمنية موحدة، أكدت "احتفاظ الدول الأعضاء بالسيادة في القرارات المتعلقة بالمجال الدفاعي، مع تشجيع الاتحاد على تطوير صناعة دفاعية، والتعاون بين جيوش الدول الأعضاء".
وعلى فرض قراءة البيان المشترك، الموقع بين الرئيسين الأمريكي والفرنسي، على هامش الاستيضاح بشأن الاتفاق الثلاثي، الذي جاء فيه أن "الولايات المتحدة تعترف أيضا بأهمية وجود منظومة دفاعية أوروبية كفؤة، تسهم إيجابيا في الأمن الأطلسي والعالمي، ومكملة لـ"حلف الناتو"، على أنه تصريح بقبول أمريكي نادر بإنشاء منظومة دفاعية مستقلة عن الحلف الأطلسي، يظل الاتحاد الأوروبي بلا خريطة طريق، تصلح لإقامة جيش أوروبي بمعنى الكلمة.
إذ تظل الفكرة إلى الساعة دون أي خطوات عملية، تجسد المشروع فعليا، فهي مجرد فكرة، يطرحها رجال الساسة متى بدا لهم الحلم الأوروبي مهددا، وذلك عائد، بحسب أحد الخبراء، إلى أن "الاتحاد الأوروبي لا يغني بالصوت نفسه.. فحتى لو تم اقتراح إنشاء جيش موحد، فإن احتمال موافقة جميع الدول عليه مستحيل".