عوائد الاستثمار .. ليست مادية فقط

عندما نقول "عوائد الاستثمار"، فإن المقصود عادة هو مقياس يستخدم لتقييم مدى ربحية استثمار مستهدف بالتقييم. ويعطى هذا المقياس عادة كنسبة يحتل الربح الناتج عن الاستثمار بسطها، وتحتل تكاليف الاستثمار مقامها. وقد تشمل دراسة "عوائد الاستثمار" مراحل زمنية يتم خلالها دراسة ما يعرف "بالتدفق النقدي Cash Flow" الذي يشمل التكاليف من ناحية والأرباح من ناحية أخرى. ويتم عبر هذه المراحل التعرف على مدى نجاح الاستثمار عبر الزمن، بما يشمل المدة الزمنية اللازمة لاستعادة حجم الاستثمار، والانتقال إلى جني الأرباح، كما يحدث في الاستثمارات الناجحة. ولا شك أن استمرارية النجاح تحتاج إلى الاستجابة للمتغيرات والقدرة على منافسة المستثمرين الآخرين في المجال المطروح.
تنحصر فكرة عوائد الاستثمار، طبقا لما سبق، في الجانب الاقتصادي المادي من الاستثمار. فالاستثمار هنا مادي في طرفيه، ففي تكاليفه قيمة مادية، ثم في أرباحه المنشودة قيمة مادية أيضا. ومعيار النجاح المادي، في ذلك، هو تفوق قيمة الأرباح على قيمة التكاليف، ضمن إطار الزمن، المتغير الرئيس في حياة الإنسان. ويختلف مستوى مثل هذا النجاح بين مجال وآخر، ويعتمد ليس فقط على الاستجابة لما تطلبه السوق، وإنما يعتمد أيضا تحفيز السوق على طلب ما يستهدفه الاستثمار. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يقدمه الاستثمار في التقنية الحديثة التي تسبق طلب السوق، لكنها تحفزه، حيث تقدم معطيات جديدة أو متجددة، لم يكن يعرفها من قبل، لكنه ينجذب إليها، ليؤدي ذلك إلى نجاح استثماراتها.
وسواء كان الاستثمار استجابة لطلب السوق، أو كان تحفيزا له على طلب جديد، فإن السوق تتمثل في كل من الإنسان الفرد من جهة، والمؤسسات من جهة ثانية، مع ملاحظة أن المؤسسات ليست سوى شخصيات اعتبارية يقودها الإنسان، العنصر الحي الذي يهتم بشؤون إدارة معطيات الحياة، ويسعى إلى توجيهها. ويضاف إلى ذلك، أن الإنسان يقف أيضا وراء كل ما تستثمره المؤسسات في السوق، من أجل تحقيق أهداف منشودة. وبناء على ما تقدم، فإن احتياجات الإنسان، من سلع وخدمات، على المستوى الشخصي، وعلى مستوى المؤسسات، هي مقصد الاستثمارات الطامحة إلى تقديم المنتجات والخدمات المختلفة، وتحقيق الفوائد في شتى المجالات.
وإذا جاز لنا النظر إلى طبيعة احتياجات الإنسان، وكذلك المؤسسات التي يقودها، فلعلنا نجد أن هذه الاحتياجات تنقسم إلى ثلاث مجموعات رئيسة. في إطار المجموعة الأولى، هناك احتياجات ترتبط بالسلع والخدمات الخاصة التي تقوم بها مؤسسات قطاع الأعمال عبر استثماراتها من أجل الحصول على أرباح. وتشمل مثل هذه السلع والخدمات ما يرتبط باحتياجات الإنسان من مأكل وملبس ومسكن، ومن متطلبات الحياة الأخرى المتجددة عبر العصور. وفي هذا المجال يكون استثمار هذه المؤسسات ماديا، وتكون عوائدها مادية أيضا. وتستفيد الدول، وكذلك أبناؤها، من نجاح مؤسسات الأعمال لديها في استثماراتها، من خلال تشغيلها لليد العاملة في أعمال ناجحة، وعبر تصدير السلع وتعميم الخدمات، خارج إطار الأوطان، وجلب أرباح الطلبات الخارجية. وعلى الرغم من أن الاستثمار هنا مادي، وكذلك والعوائد بالنسبة إلى مؤسسات الأعمال، إلا أن هناك أيضا مكاسب اجتماعية، لبلدان هذه المؤسسات، تستحق أن تؤخذ في الحسبان في حساب العوائد.
وبشأن المجموعة الثانية، هناك احتياجات أخرى للإنسان، تتمثل في خدمات مختلفة تقدمها الدولة، عبر مؤسساتها، وتستثمر فيها مما لديها من إيرادات من مصادر مختلفة، ليس من أجل الحصول على أرباح، وإنما من أجل تمكين الأمة من حياة مستقرة وتقدم مطرد. ومن أمثلة هذه الخدمات، خدمات الأمن، والتعليم، والصحة، وكل ما يتصل بإدارة شؤون الدولة. وبذلك يكون الاستثمار ماديا، لكن عوائده لا تكون مادية، بل تكون اجتماعية، ولو أن لها أيضا فوائد مادية، لكن هذه الفوائد لا تكون مباشرة كأرباح مؤسسات الأعمال، وإنما تكون كامنة، كما أنها تكون مؤثرة.
وما بين مجموعة مؤسسات الأعمال واستثماراتها وأرباحها وأثرها الاجتماعي، وبين مجموعة مؤسسات الدولة واستثماراتها في تقديم الخدمات العامة، والفوائد الكامنة والمؤثرة الناتجة عنها، تبرز مجموعة ثالثة هي مجموعة مؤسسات الأعمال المملوكة للدولة كليا أو جزئيا، وقد تحدثنا عن هذه المؤسسات سابقا في أكثر من مقال. وتتميز هذه المؤسسات بأنها تسعى في استثماراتها إلى عوائد مادية، كما تسعى أيضا إلى عوائد اجتماعية، عبر مراعاة المتطلبات الاجتماعية والالتزام بخدمة المجتمع والاستجابة لمتطلباته. ومثل هذه المؤسسات منتشر في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك المملكة التي تتمتع بوجود عدد من مثل هذه المؤسسات، مثل "أرامكو وغيرها". وهناك بالطبع، ولكن ضمن نطاق محدود، مجموعات لمؤسسات مختلفة أخرى تستجيب لمتطلبات الإنسان والمؤسسات وتعطي عوائد مادية واجتماعية.
وهكذا نجد أن عوائد الاستثمارات، ليست مادية فقط، بل إن لها عوائد اجتماعية أيضا. ويبرز في هذا المجال تعبير "العوائد الاجتماعية للاستثمار SROI"، وكذلك تعبير "الأثر الاجتماعي للاستثمار SII". وهناك ثلاثة محاور رئيسة للعوائد الاجتماعية للاستثمار تؤخذ عادة في الحسبان. أولها "محور البيئة Environment" الذي يسعى إلى الحد من التلوث، والمحافظة على الحياة وتعزيز استدامتها للأجيال القادمة. أما المحور الثاني فهو محور "العدالة Equality"، والاهتمام بشؤون الأقل حظا. ويأتي المحور الثالث، بعد ذلك، ليركز على قضايا "رفاهية الإنسانية Well-being"، وتأمين الحياة التي تحقق ذلك. وفي إطار هذه المحاور، وربما محاور إضافية أخرى، هناك معطيات كثيرة لعوائد اجتماعية مفيدة للإنسان في كل زمان ومكان.
إذا نظرنا إلى عوائد الاستثمار من طرفين، الطرف المادي من جهة، والطرف الاجتماعي من جهة أخرى، فلعلنا نرى أن لكل منهما تأثير إيجابي على الطرف الآخر. فمؤسسات الأعمال المعنية بالطرف المادي تستفيد من الحالة الاجتماعية الحسنة من حولها، وهي الحالة التي تبنيها مؤسسات الدولة. كما أن مؤسسات الدولة تستفيد من نجاح مؤسسات الأعمال فيها، حيث يعزز ذلك استثماراتها الاجتماعية. وعلى ذلك، فإن في تفعيل الاستثمار، في الطرفين المادي والاجتماعي، طاقة متجددة لمسيرة ناجحة نحو المستقبل المأمول.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي