أوروبا الغربية .. الهجرة تتحول إلى كرة قدم سياسية
منذ عهد بعيد، افترض عديد من المراقبين أن المستقبل الجيوسياسي سيحسم في معركة بحرية عند مضيق تايوان أو بعض النتوءات الصخرية أو الجزر المرجانية في بحر الصين الجنوبي. مع ذلك، ربما يكون بوسعنا أن نعرف مزيدا من خلال دراسة "المعاملة التي يلقاها بضعة آلاف من اللاجئين البائسين في منعزل سياسي في القرن الـ21"، وفقا لمارك ليونارد مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ومؤلف كتاب "عصر اللا سلم".
لنبدأ بالقناة الإنجليزية. كانت القناة الإنجليزية موقعا لبعض من أكثر المواجهات دراماتيكية في التاريخ - من الأسطول الإسباني "أرمادا" وحروب نابليون إلى إنزال "نورماندي" - لكنها لم تعد الآن مسرحا لسياسات القوى العظمى. بدلا من ذلك، تسبب مقتل 27 مدنيا انقلب قاربهم المطاطي أخيرا بعد مغادرة الساحل الفرنسي في تحويل القناة إلى موقع لمأساة إنسانية.
لكن بدلا من العمل معا في تضامن مع فرنسا لاستئصال مهربي المهاجرين المسؤولين عن هذه الوفيات، سعى بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني على الفور إلى الاستعراض أمام جمهور سياسي محلي، بإلقاء اللوم على الفرنسيين، في رسالة مفتوحة نشرت على موقع تويتر. بعيدا عن كون هذا التصرف مجرد لعبة بهلوانية سياسية، فإن عجز جونسون عن القيادة على هذا النحو من شأنه أن يخلف على الأرجح عواقب مروعة وبعيدة المدى.
في سعيه إلى إعادة انتخابه في الربيع المقبل، في حملة حيث ستمثل الهجرة قضية حساسة، رد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على فظاظة جونسون بإلغاء الدعوة الموجهة إلى وزير الداخلية البريطاني لحضور اجتماع وزراء الداخلية الأوروبيين في كاليه. ونظرا إلى انعدام الثقة على ضفتي القناة، تعتقد كل من الحكومتين أن الأخرى تستخدم الصراع كجزء من مباراة كبرى بين القوى تمتد إلى التجارة والدفاع والسياسة الخارجية.
بينما تحولت الهجرة إلى كرة قدم سياسية في أوروبا الغربية، فقد استخدمت في قطاع منعزل من الأرض بين بيلاروسيا وبولندا. الواقع أن بيلاروسيا، وهي ليست وجهة مشهورة للمسافرين من الشرق الأوسط، كانت تنقل المهاجرين جوا من العراق وأفغانستان وسورية، ثم ترسلهم إلى الحدود مع وعد بإدخالهم إلى الاتحاد الأوروبي. الدافع الذي يحرك الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو في هذا الصدد واضح: الضغط على الحكومات الأوروبية لحملها على تخفيف العقوبات المفروضة على نظامه منذ الانتخابات الرئاسية المزورة في العام الماضي، التي جرى تشديدها، بعد أن أجبر طائرة تجارية على الهبوط لإلقاء القبض على أحد ركابها.
لا شك أن لوكاشينكو لا يتوهم أن إدخال بضعة آلاف من المهاجرين قد يكون كافيا لإرباك بولندا، أو حتى ليتوانيا، لكنه يدرك أن أهم ساحات المعارك في أيامنا هذه هي عقول الناس، وليست الأرض. في سعيه إلى إعادة إنشاء الصور من أزمة الهجرة في الاتحاد الأوروبي 2015، يعد استغلاله المهاجرين على هذا النحو عملا من أعمال حرب المعلومات في نهاية المطاف.
أوضحت كيلي جرينهيل العالمة السياسية أن لوكاشينكو ليس أول من يحول المهاجرين إلى أداة لسياسة الحكومات. وهي توثق أكثر من 75 مناسبة، حيث أجبرت حكومات عديدة - بما في ذلك حكومات المغرب وروسيا وليبيا وتركيا - مدنيين على الرحيل من ديارهم "أو شجعتهم على الفرار" من أجل تحقيق بعض الأهداف السياسية، أو العسكرية، أو الاقتصادية. لقد أصبح استخدام الهجرة كسلاح ممارسة تكميلية متكررة لأشكال أخرى من الضغط مثل العقوبات، والحرب السيبرانية وحرب المعلومات، وسياسات التجارة والبنية الأساسية.
في هذا السياق، تعد كل من الحملة البيلاروسية والمشادة حول القناة الإنجليزية من أعراض بيئة السياسة الخارجية المتغيرة، حيث يستعاض عن الحروب التقليدية بأشكال جديدة من العدوان. وهنا تعد قوة الاتصال والارتباط بين الناس والدول العملات الجديدة المفضلة للقوة.
وصف كارل فون كلاوزفيتز المنظر العسكري الحرب بأنها استمرار للسياسة بوسائل أخرى. لكن في العصر النووي، تكون الحرب في الأغلب الأعم خيارا لا يمكن سبر أغواره، ولهذا كان لا بد من استمرار السياسة العالمية بوسائل أخرى، ما أسميه "صراعات الاتصال". الواقع أن الحكومات تتلاعب بالأشياء ذاتها التي تربط الدول ببعضها بعضا: سلاسل التوريد، والتدفقات المالية، وحركة الناس، والجوائح، وتغير المناخ، وفوق كل ذلك الإنترنت.
في حين تحرض جائحة فيروس كورونا البشرية جمعاء ضد مرض معد واحد، يجري الآن تأجيج جائحة أخرى عمدا من الظلال. لقد أصبحت السلوكيات السامة معدية، حيث يستجيب القادة الوطنيون لاستخدام قوة الاتصال كسلاح من خلال الرد بالمثل.
سيكون من الصعب عكس الاتجاه الهابط الناتج عن ذلك، لأن صراعات الاتصال تدور عادة تحت سحابة من النفاق والإنكار المعقول ظاهريا. فقد يزعم لوكاشينكو - وإن كان ذلك على نحو غير مقنع - أن المهاجرين من الشرق الأوسط سافروا إلى بيلاروسيا بمحض إرادتهم. على نحو مماثل، قد يدعي الاتحاد الأوروبي أن قرار تعليق التصديق على خط أنابيب نورد ستريم2 الذي يربط ألمانيا بشكل مباشر بإمدادات الغاز الروسية اتخذ على أسس إجرائية لا علاقة لها بالسياسية.
إن الطبيعة غير الرسمية التي تتسم بها مثل هذه النزاعات تجعل من الصعب فهم الأسباب وراء اتخاذ قرارات بعينها. لا يزال لزاما على الحكومات أن تجد الأطر المناسبة لتقييم حتى اختياراتها. على سبيل المثال، عندما يتعلق الأمر بالقرارات بشأن الهجرة، كيف ينبغي لأي حكومة أن ترتب أولويات القانون الدولي، وسلامة البشر، ونفوذها الشخصي، هل كان المقصود من سياسات التجارة أن تعمل على زيادة الأرباح أو النفوذ الوطني، هل من الجائز أن يكون هدفها تقليص التكلفة التي يتحملها المستهلك في الأمد القريب، أو حماية المنتجين المحليين من المنافسة غير العادلة "وبالتالي منح المستهلكين اختيارات أكبر في الأمد البعيد"؟
بدلا من إزالة التوترات القائمة بين الدول، تقدم قوة الاتصال وسائل جديدة للتنافس والانخراط في الصراع. ليس من المستغرب أن يصبح الخط الفاصل بين الحرب والسلام مطموسا على نحو متزايد. لقد ولى وذهب عالم تولستوي، حيث كانت فترات التناوب بين الصراع المفتوح والوئام محددة بوضوح. لقد دخلنا حقبة من الصراع الدائم، حيث سيكون أغلب المقاتلين وكل الضحايا تقريبا من المدنيين. فيما يسمى "عصر اللا سلم"، تحول بؤساء الأرض إلى عتاد حربي دون أن يدروا.