الهند والجمع بين النقيضين موسكو وواشنطن

الهند والجمع بين النقيضين موسكو وواشنطن
أولت الهند منذ استقلالها اهتماما كبيرا بزيادة قوتها وتحالفاتها العسكرية.

لعبت المؤسسة العسكرية أدوارا بارزة في الحياة السياسية الحديثة للدول والكيانات، بتحديد مصيرها وشكلها، متجاوزة دورها الدفاعي لتكون ضمانة للحياة السياسية في البلاد، مع وجود عقيدة عسكرية أساسها الانضباط وتنفيذ الأوامر، كما أنها أداة تصحيح انحرافات السلطة، لكن التغيير قد يأتي بصورة سلبية، في حين بعض الدول تفرض قبضتها العسكرية شبه المطلقة حتى تتم السيطرة على الأوضاع فيها، لوضع أول لبنة في الدولة، ورسم وتخطيط ملامح الحاضر والمستقبل للدول، التي تبقى حجر الزاوية الأهم في حفظ أمن واستقرار الدول، وغالبا ما يصنع في الخلطة السرية للتوازنات والعلاقات مع الدول، ومن خلالها يتم قطف الثمار أو تقديم التنازلات للحلفاء والأعداء في الوقت نفسه، بحسب ما تقتضيه المصلحة.
تعد الهند إحدى الدول ذات التصنيف البشري الكثيف، وهي من خليط ثقافي ديني اجتماعي متنوع، كما أن مؤسساتها الأمنية والعسكرية ذات ارتباط كبير بالدول العظمى، نظرا إلى أهميتها الجغرافية والعالمية، خصوصا أنها دولة نووية، تعيش حالة توتر عسكري شبه مزمن مع جارتها النووية باكستان، ولأن لها خصوصية فكل ما يجري فيها لا يأتي بالصدفة، وآخر هذه الأحداث ما نشره سلاح الجو الهندي من تغريدة، أكد فيها مقتل الجنرال بيبين راوات قائد هيئة الأركان الهندية، وزوجته و11 آخرين، في تحطم مروحية في ولاية تاميل نادو في جنوب البلاد، التي جاء فيها "مع أسفنا العميق، بات من المؤكد أن الجنرال بيبين راوات والسيدة مادهوليكا راوات و11 شخصا آخر على متن المروحية توفوا في هذا الحادث المؤسف"، إذ يعد فقيد المؤسسة العسكرية الهندية من المحسوبين على مودي نايندرا رئيس الحكومة الهندي، كما أنه يشغل هذا المنصب المستحدث في 2019.
هذه الحادثة مهما كان سببها إلا أنها ذات دلالة كبيرة في ظل الأوضاع الراهنة، التي تعيشها شبه القارة الهندية، خصوصا أن الجنرال الراحل تعرض لانتقادات حقوقية واسعة بسبب شرعنة العنف المفرط للجيش الهندي في إقليم جامو وكشمير المتنازع عليه، إضافة إلى تحريضه على ممارسة العنف غير المنضبط تجاه أهالي كشمير المواليين لإسلام أباد، كما أنه من رعاة التقارب مع روسيا، والحصول على التكنولوجيا الصاروخية منها على حساب العلاقات مع الحليف الأمريكي.
الحادثة تعيد الاهتمام بشكل غير مباشر إلى الصراع القائم بين الهند وباكستان، الذي صنع منظومة عسكرية هندية قوية ومتماسكة، وبعيدة عن الاختراق الداخلي، وكذلك مثلها في الجارة الباكستانية، إذ دفع السباق بين الدولتين الجارتين النوويتين لتحقيق الأهداف القومية العليا، إلى تحقيق التفوق في ظل استمرار الصراع التاريخي بينهما، لكن القوات العسكرية الهندية لديها ارتباطات أكبر، جراء التوتر الحدودي شبه الدائم بينها وبين الصين، لتكون هنالك عقيدة عسكرية هندية متماسكة لمواجهة التحديات، وكان آخر حلقات مسلسل هذا التوسع العقائدي العسكري، زيادة دورها في المحيط الهندي من خلال تطوير القوة البحرية، المبني على برامج تسليحية متطورة بما يتضمنه ذلك من الاهتمام بالصناعات العسكرية، والشراكات المتوازنة مع الدول الكبرى والمتقدمة، لتتحدد العقيدة العسكرية للدولة الهندية مع الإمكانات المادية والتكنولوجية والبشرية، إضافة إلى العوامل السياسية والأيديولوجية والجغرافية، لتصنع دورا مهما في تحديد القوة السياسية للبلاد وإظهار مكانتها عالميا.
أولت الهند منذ استقلالها اهتماما كبيرا بزيادة قوتها العسكرية، واستخدمتها بعد الاستقلال مباشرة ضد باكستان، ثم كانت حربها مع الصين 1962، وتبعتها الحرب الهندية الباكستانية الثانية 1965، ثم الثالثة 1971، إذ أدت هذه المواجهات بين الهند وكل من باكستان والصين إلى اعتبارهما المصدرين الأساسيين للتهديد، ومن ثم فإنها في سعيها لمواجهة هذا التهديد اتجهت إلى تدعيم علاقاتها بالاتحاد السوفياتي سابقا، ومن جانبها فإن باكستان التي ترى في الهند التهديد الرئيس دعمت علاقاتها بالصين، وفي مرحلة لاحقة ومع التطورات التي حدثت على الساحة الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عملت الهند على تدعيم روابطها العسكرية بالولايات المتحدة.
قطفت الهند ثمار عقيدتها العسكرية، بفرض نفسها أمام الأعداء التقليديين، كما بسطت قوتها على مساحات شاسعة ومترامية الأطراف وحافظت على حدود البلاد، كما أنها بقيت مصدر الأمان ونقطة الالتقاء الأولى للشعب الهندي، وتسعى إلى رسم صورة مثالية لها على الرغم من التجاوزات الكبيرة على مستوى ملف تجاوزات حقوق الإنسان، لكن كل دولة حريصة على سمعتها ولو لم تكن نموذجية في التعاطي مع الملفات الداخلية والخارجية، فالجنرال الراحل أمر قواته باستخدام جميع الحلول للقضاء على أي توتر تشهده أماكن الصراع، ما تسبب في منحه وساما رفيع المستوى تقديرا لما فعله، خصوصا في باكستان، لكن التجاوزات بلغت حد أن يستخدم أحد الجنود الهنود مواطنا كشميريا يدعى فاروق دار درعا بشرية، عبر تقييده بالسلاسل على مقدمة سيارة جيب وتعليق لافتة حول عنقه تحذر الكشميريين من عواقب مقاومة السلطات الهندية بالحجارة، ليتم التبرير لاحقا على لسان الجنرال راوات "نحن نواجه حربا قذرة بالوكالة في جامو وكشمير، لذا يجب خوضها بطرق مبتكرة".
ملف قائد هيئة الأركان الهندي يعج بالتجاوزات والمخالفات، بحسب مراقبين، لكنه حقق الهدف المنشود بإخماد التمرد - كما تعده الهند -، لكن في نظر كثير من القائمين على المؤسسة العسكرية الهندية فهو يظهرها بمظهر الدكتاتورية المتوحشة، ويلفت انتباه المؤسسات الحقوقية تجاهها، خصوصا أنه اتهم الكشميريين برشق الحجارة على الجيش الهندي وقذفهم بالقنابل الحارقة، متسائلا: هل يجب أن أقول لجنودي انتظروا الموت فقط وسآتي لأحملكم في تابوت جميل مغطى بعلم الوطن؟ بالطبع لا، ما يجب أن أفعله هو الحفاظ على معنوياتهم مرتفعة، لهذا منح الضابط وسام شرف، كما وجه في أحد مقاطع الفيديو المنسوبة إليه خطابا إلى الجماعات الهندوسية المنتشرة في الإقليم، بقتل أي شخص يعدونه إرهابيا بلا انتظار لمحاكمة، ما عدته منظمات حقوقية تحريضا مباشرا ضد مسلمي كشمير، وتبريرا للمجازر المرتكبة في حقهم.
ويبقى السؤال المطروح: ما تأثير مقتل قائد هيئة الأركان وضابط إيقاع علاقاتها بالقوى العظمى، خصوصا أن الحادثة تزامنت مع انفتاح عسكري هندي على روسيا، أثار حفيظة واشنطن، التي يميل مزاجها إلى فرض عقوبات على الدول والكيانات، التي تعدها من خصوم واشنطن، التي تتضمن البند 231 من قانون "مكافحة خصوم أمريكا عن طريق العقوبات" المعروف اختصارا بـ"كاتسا"، إذ سبق أن فرضته واشنطن على تركيا بعد أن حرمتها من الاستمرار في مشروع الطائرة إف – 35، عقب إعلانها شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية إس – 400؟
المفاوضات التراكمية بين الهند وروسيا نتجت عنها صفقة تسمح للهند بإنتاج بنادق هجومية من طراز أيه.كيه-203، كما قالت روسيا "إنها مهتمة بالمضي قدما في توفير إمدادات منظومات الدفاع الجوي الصاروخي الروسية من طراز إس – 400، البالغة قيمتها أكثر من خمسة مليارات دولار، على الرغم من التهديد بزعزعة العلاقة بين نيودلهي وواشنطن"، ما يشير إلى أن نيودلهي مستعدة للمخاطرة لتعزيز دفاعاتها ضد الصين على حدودها، إلا أن أمريكا هددت بفرض عقوبات بموجب "قانون مكافحة أعداء الولايات المتحدة عبر العقوبات"، الهادف إلى كبح جماح روسيا، فيما أشارت وزارة الخارجية الأمريكية، إلى عدم وجود أي قرارات ترتبط بمنح الهند استثناءات في هذا الصدد، ما يشير ولو بشكل ضمني إلى أن قيادة الجيش الهندي كانت تتحدى واشنطن بشكل من الأشكال، وقد يكون من تبعات الحادثة رسائل ضمنية لواشنطن لتهدئة الأوضاع وتجديد الالتزام معها.

الأكثر قراءة