قطارات الصين على موعد مع منعطف جديد
لم ولن يكون حلم الوصول إلى القمة حملا خفيفا في يوم من الأيام، والصين المنافس الجديد لأمريكا والغرب، المتهمة أمريكيا وغربيا بمحاولات السيطرة على العالم، جعلتها عرضة للصدمات، كما أنها مجبرة على أن تكون "الترند" أو في المرتبة الأولى عالميا فيما يتعلق بأخبار الكوارث والأزمات سواء كانت المصدر لها أو المتلقي للأزمات والكوارث، لكن النمو الصيني الكبير، والاهتمام الأمريكي الغربي بالحد منه، من خلال العقوبات وحملات تشويه السمعة، للحد من طموحات بكين أن تكون الوريث الشرقي الجديد للعالم. لكن بعيدا عن نظرية المؤامرة، فالصين تحت المجهر هي مصدر قلق للعالم بعد انتشار الأزمات منها بمختلف أنواعها، خصوصا أنها موطن الحالة صفر لفيروس كورونا مطلع 2020،
تعد الصين في الآونة الأخيرة مصدرا للأزمات الصحية والاقتصادية، فبعد أن بدأ العالم في التعافي من الجائحة، التي انطلقت من ووهان، تصدرت الصين طليعة الأخبار الاقتصادية لتنذر بأزمة جديدة كالتي أصابت الأسواق العالمية في 2008 بسبب بنك ليمان براذرز، لتكون الأزمة الجديدة شركة العقارات الصينية "إيفرجراند"، التي تعجز عن تسديد ديونها حتى يومنا هذا، التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، لكن التدخل الحكومي بمنح القروض خفف من وطأتها، لكن بعد أشهر قليلة من هذه الأزمة وتلك، يقف العالم على موعد مع أزمة صينية جديدة متوقعة، لكن هذه المرة في قطاع القطارات، تحديدا شركة القطارات الصينية China Railway، التي قد تبلغ قيمة ديونها ثلاثة أضعاف ديون عملاق العقارات الصيني "إيفرجراند".
تعود ملكية شركة النقل هذه إلى الحكومة الصينية، وهي مسؤولة عن بناء وتوسيع أكبر شبكة قطارات سريعة في العالم، لكن المشكلات بدأت تصيبها منذ 2015، إذ إن الفوائد المتراكمة على دفعات قروضها تفوق أرباحها التشغيلية، وبالتالي تراكمت خسائر الشركة منذ أكثر من ستة أعوام، ما تسبب في زيادة عمر الشبكة، التي زادت حاجتها إلى الصيانة المستمرة والمكثفة، والصيانة تحتاج إلى تكاليف أكبر في كل مرة مع كبر عمر الشبكة، كما أن العمر الافتراضي لبعض القطارات والسكك يجبر الشركة المالكة على استبدالها بقطع جديدة ذات تقنيات أحدث ووسائل سلامة أعلى وفقا لمتطلبات الزمن والحداثة، وهذه التكلفة مضاعفة مقارنة بالقطارات التقليدية وتكلفتها التشغيلية.
ومما فاقم المشكلة، عدم قدرة الشركة على زيادة أسعار التذاكر لمواكبة تكاليف الصيانة، لأن ذلك سيؤدي إلى هرب الزبائن إلى بدائل أرخص، إذ يبلغ سعر تذكرة القطار السريع في الصين ثلاثة أضعاف سعر تذكرة القطار العادي، وهذا في حد ذاته تكلفة مرتفعة على المواطن الصيني، خصوصا بعد الأزمات المالية ذات الأثر الهائل للجائحة في المواطن الصيني، لدرجة أن كل خطوط القطار السريع تقريبا في الصين لم تعد مربحة، نظرا إلى فترة الحجر الطويلة التي أجبرت نسبة كبيرة من السكان على البقاء في منازلهم، لفترات طويلة، كما أن كثيرا من العاملين في مدن أخرى غير مدنهم من مستخدمي شبكة القطارات خسروا أعمالهم، نتيجة إغلاق بعض الشركات أو نتيجة التخلي عن خدماتهم.
مشكلة شبكة القطارات السريعة الصينية أنها ليست مؤهلة لشحن البضائع والسلع الثقيلة، وهذا الأمر في حد ذاته قطاع كبير يدر كثيرا من الأموال، ويتسبب في كثير من الخسائر لكل من يعمل في النقل ولا يفكر في قطاع نقل البضائع، خصوصا أن الصين دولة صناعية في المقام الأول، وتعتمد على شحن ونقل المواد الخام والبضائع كمنتج نهائي، لبيعها في السوق المحلية الصينية أو تصديرها إلى الخارج، كما أن السكك الحديدية المخصصة للقطارات السريعة لا يمكنها تشغيل قطارات نقل البضائع، بسبب اختلاف مواصفاتها التقنية، ما يعني أن الخطوط التي تخسر لا يمكن تحويلها من خطوط نقل ركاب إلى نقل بضائع.
أرقام الخسائر فلكية، ولا يمكن النظر إليها إلا على أنها أزمة مالية عالمية، وبحسب تقرير لصحيفة "فاينانشيال تايمز" 2018، بلغت ديون شركة القطارات الصينية نحو 850 مليار دولار، هذا يعني أن آثار الجائحة لم تؤخذ في الحسبان بعد، وعلى الرغم من التدخل الخجول لبكين في الأزمة، بعد أن قررت في مايو من العام الحالي وقف بناء خطين جديدين للقطارات السريعة، بسبب تعاظم ديون الشركة المشغلة، وللحد من مخاطر الأزمة وليس تجاوزها بشكل كلي فالحكومة الصينية أمام خيارات قليلة، إما أن تقوم ببيع بعض أصول الشركة لسداد ديونها، وهذا لن يكون مجديا تماما، لأن المشترين سيكونون معنيين فقط بالخطوط المربحة، بينما ستبقى الخطوط الخاسرة في يد الحكومة وتنفق عليها من أموال دافعي الضرائب.
أما الخيار الأصعب فهو أن تقوم الدولة بإيقاف عدد من الخطوط الخاسرة، وهذا سيعني فقدان مئات الآلاف من العمال وظائفهم، ما يترتب عليه غضب شعبي واسع وضربة لسمعة الصين في الخارج، بعد أن كانت شبكة القطارات السريعة حجر الزاوية للحزب الشيوعي الحاكم. بلا شك هي أيام صعبة أمام الصين، وضربة في مقتل للاقتصاد الصيني قد تصيبه بحالة من الشلل، خصوصا أن حل الأزمة سيتطلب كثيرا من احتياطي الدولارات الأمريكية الموجود لديها، التي طالما كانت تستند إليه كعنصر ضغط وطوق نجاة من العقوبات الأمريكية.
وقوع الأزمة يعني فشل دبلوماسية السكك الحديدية، التي تتجاوز الصورة الذهنية الأولى بأن السكك الحديدية تسهل حركة الأشخاص والبضائع حول العالم، ما يمكن أن يعزز نشاط السوق ويدفع بالتنمية الاقتصادية، فالأمر بالنسبة إلى صانع القرار الصيني يتجاوز ذلك، فهي آلية رئيسة تستخدمها بكين لتطوير البنية التحتية للسكك الحديدية في جميع أنحاء العالم، لتمنح الصين فرصة فريدة لتعزيز علاقاتها الإقليمية وجني فوائد اقتصادية وسياسية في آن واحد، وتتمثل في احتمالات سحب الصين أموالها في الخارج وضخها لإنقاذ الداخل، ولا سيما في قطاع حساس مثل العقارات، الذي يمثل المصدر الوحيد للثروة لدى المواطن الصيني العادي، وقطاع النقل، الذي يعتمد عليه مئات الآلاف يوميا للعمل والحياة.