الميزانية السعودية والتخطيط المالي .. التحول المدروس
إعلان الميزانية العامة السعودية 2022 يؤكد بشكل واضح مضي الدولة من خلال رؤية المملكة 2030 في عملية التحول المدروسة، نحو تحقيق مالية سعودية قوية مستدامة. لا شك أن أحد أكبر وأهم التحولات التي حدثت خلال الأعوام الماضية في طريقة إعداد ميزانية الدولة وإدارة المالية العامة يكمن في التخطيط المالي على المديين المتوسط والبعيد، لتحقيق الاستدامة المالية المطلوبة. وهذا التخطيط لم يكن موجودا ولم يعمل بأي شيء قريب من ذلك خلال العقود الماضية. وبدا ذلك أكثر وضوحا وخطورة خلال أعوام الطفرة المالية الكبرى التي شهدتها المملكة خلال العقدين الماضيين، ونتج عنه ضياع فرص تاريخية.
كانت ميزانية الدولة في السابق تعد بطريقة تكاد تكون بدائية وانتقائية، حسب ظروف وتوجهات قصيرة المدى. ترتفع المصروفات مع ارتفاع إيرادات البترول وتنخفض تباعا مع انخفاض الإيرادات. ويتحول الإنفاق الحكومي من انحسار كبير وقت تراجع أسعار البترول إلى إنفاق هائل وقت الرخاء. كما نتج عن تلك التذبذبات الكبيرة في برامج الإنفاق الحكومي، تعثر في المشاريع وقت الانحسار، وزيادات كبيرة في التكاليف وقت التوسع في الإنفاق قصير المدى. السبب ليس فقط ضعفا في الإدارة المالية، بل عدم وجود رؤية مستقبلية لمتطلبات الاقتصاد السعودي لتكون بوصلة موجهة للإنفاق الحكومي. تبع ذلك بطبيعة الحال غياب للرقابة والمحاسبة.
الميزانية العامة للدولة تعكس رؤى وقيما في أولويات السياسات العامة. بدون ذلك تبقى الميزانية أرقام إيرادات ومصروفات. جاءت رؤية المملكة 2030 لرسم سياسات مستقبلية واضحة يمكن البناء والمحاسبة عليها. وأصبح الترابط بين مختلف أجهزة الدولة أمرا ضروريا لتحقيق أهداف الرؤية. وكان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مهندس رؤية المملكة 2030 ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، المنوط به تنفيذ برامج الرؤية قد أوضح ذلك في حديث سابق، فيما يسمى في أدبيات التخطيط والسياسات العامة بمركز الدولة، حيث ينظر إلى الأمور من مختلف جوانبها بتنسيق بين الأجهزة كافة لتحقيق أهداف عليا على المديين المتوسط والبعيد. ومن تلك البرامج ضبط مالية الدولة وتطوير أدواتها. وقد نجحت وزارة المالية في الأعوام الأخيرة في تنفيذ عملية تطوير كبيرة وحوكمة جديدة لجهاز الوزارة، تم من خلالها رسم أطر عامة بالغة الأهمية لضبط ورفع كفاءة الإنفاق، لتحقيق الاستدامة المالية المطلوبة.
وتتوافق هذه التطورات الإيجابية في إدارة المالية العامة للدولة مع عملية تطوير كبيرة لأول صندوق سيادي سعودي. تحول صندوق الاستثمارات العامة في أعوام قليلة من جهاز ضعيف في وزارة المالية إلى أحد أكبر صناديق الاستثمار العالمية وأكثرها ديناميكية ونشاطا. تميز صندوق الاستثمارات العامة خلال الأعوام الماضية بكونه الأكبر عالميا في دفع عجلة التطور والنمو في الاقتصاد المحلي، متفوقا بذلك على أكبر الصناديق السيادية في هذا المجال. وبالمقارنة، تبقى الحلقة الضعيفة Vulnerable في منظومة استثمار القطاع العام في المملكة لمواجهة الالتزامات المستقبلية متركزة بشكل كبير في شركة حصانة للاستثمار، التابعة للمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، التي لا ترقى إلى مستوى الإدارة والحوكمة في كل من صندوق الاستثمارات العامة وجهاز الاستثمار في البنك المركزي السعودي "ساما"، رغم حجم الاستثمار الكبير الذي أصبح بعد الدمج مع المؤسسة العامة للتقاعد أكثر من تريليون ريال. جهاز الاستثمار في المؤسسة العامة للتأمينات يكاد يكون الوحيد بين أجهزة الدولة بالغة الأهمية والحساسية الذي لم يتعرض لتحديث وتطوير ملموس، وبقي على ما هو عليه قبل بداية تنفيذ برامج رؤية المملكة 2030.