رياح التغيير الشرقية تقلص خيارات النفوذ الغربية

رياح التغيير الشرقية تقلص خيارات النفوذ الغربية
التغيرات كبيرة، والعالم لم يعد كما كان في السابق.
رياح التغيير الشرقية تقلص خيارات النفوذ الغربية
وزراء خارجية روسيا والهند والصين في لقاء سابق.

تتزاحم الأحداث في العالم وتتبادل الأدوار، لتنتزع الأولوية من بعضها بعضا، وكل منها على طريقته الخاصة، ففي زمن الدول الكبرى قد تتبدل الأولويات بحسب المعطيات المستجدة، فتارة تتصدر الصحة الموقف وتارة أخرى يكون الاقتصاد في الصدارة، في حين تتجمد الإنسانية عند حقوق اللاجئين العالقين على الحدود بين الدول هنا وهناك، فيما تغرق الإنسانية بلا أي قيمة في مياه البحار بحثا عن حياة، فرت لأجلها شعوب من دولها وهربا من الموت، وكأن القيمة الإنسانية اليوم أصبحت لمن يمتلك القوة، فهو الذي يستحق البقاء، على الأقل في نظر من هو أقوى منه.
التغيرات كبيرة، والعالم لم يعد كما كان في السابق، فهو اليوم يميل إلى نزعة فطرية، هدفها التوازن، وغايتها أن يعتلي الشرق قمة العالم، لتستمر سنن الكون في التبدل والتغير، فالشرق الذي بدأ الاستفاقة من غيبوبة طويلة تسيد فيها الغرب العالم، بدأ يتنبأ بالأحداث، التي تشير إلى وجود براكين خامدة تغلي حممها تحت رماد ساكن، قد تثور نيرانها في أي لحظة تحول هذا العالم إلى ساحة معركة تحكمها شريعة الغاب، فالتوازن بين الشرق والغرب أمر محتوم، والسباق يتسارع نحو خط النهاية رغما على فكي الكماشة الغربية أمريكا وأوروبا، اللتين تحاولان عبثا بسط السيطرة الأبدية.
تتجاهل موسكو التصريحات الأمريكية، وتستمر في ممارسة أسلوب العربدة الخشنة تجاه أوكرانيا، والحجة تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مؤتمره الصحافي السنوي، الذي قال فيه: "إن صواريخ الولايات المتحدة أصبحت على أبواب بلاده"، لكن الغاية أن بوتين وحكومته مستعينون بذكرياتهم، بالاستحواذ على شبه جزيرة القرم 2014، في واحدة من أكبر عمليات انتزاع الأراضي، التي شهدتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
تحشد الدولة الروسية جنودها على الحدود مع أوكرانيا، متغافلة وجود قوات حلف شمال الأطلسي والقوات الغربية الموجودة هناك، إضافة إلى التغاضي عن وجود منصات الباتريوت الأمريكية، مبيتة النية باستعدادات عسكرية لغزو دولة أوروبية مجددا، مبررة ما يجري وسيجري بأنه للحفاظ على مصالحها المهددة في أوكرانيا، ورغبتها في إثبات نفسها لاعبا جيوسياسيا، بالتزامن مع تراجع الردع الأمريكي، لتصبح الحرب إحدى الخيارات المتاحة، ولتكون نقلة بيدق شرقي على رقعة الغريم الأوروبي.
تمسك موسكو بسلاح الطاقة كورقة جوكر في وجه الأوروبيين، ومضيها في بسط نفوذها على سوق الطاقة الأوروبية عبر خط الأنابيب "نورد ستريم2″، الذي سيخضع أهم لاعب أوروبي، وهو ألمانيا، للإرادة الروسية، خصوصا في ظل ترسيخها مبدأ الاعتماد على الغاز الطبيعي، هذا الصراع قادر على تشويه ملامح الخريطة الأوروبية الحالية، كما أنه قادر على تغيير ملامحها، ما يفقد واشنطن جهودها من أجل ترشيد علاقتها بروسيا.
الحكومة في كييف رفضت الخضوع لمطالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي قابل نظيره الأمريكي جو بايدن في حزيران الماضي، في خضم جهودهما لبناء علاقة مفهومة أكثر للدولتين، لكن المؤشرات تدل على أن موسكو اليوم تبدو بصدد عمل عسكري أكبر من التلويح هذه المرة، خصوصا أن الرئيس الروسي أكد خلال أحد اللقاءات أن بلاده "تنازلت كثيرا ولن تتراجع هذه المرة".
سبق أن تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن بإنهاء "حروب أمريكا الأبدية" وتقليص الوجود العسكري الأمريكي في الخارج، لكن يبدو أن التحديات الأمنية، قد تثنيه عن وعوده، خصوصا في ظل المنافسة مع الصين وروسيا في مناطق النفوذ والصراعات الساخنة، التي أجبرت واشنطن على مراجعة سياسة الانتشار العسكري في الخارج، عقب نجاح الانسحاب من أفغانستان ومناطق النفوذ الكردي في سورية والعراق، إذ يؤمن راسم السياسة العسكرية الأمريكية بأنه لولا الوجود العسكري في كوريا الجنوبية، الذي يبلغ قوامه نحو 30 ألف جندي أمريكي لقامت كوريا الشمالية بغزوها، وينطبق الشيء ذاته على اليابان، التي يعسكر في قواعدها نحو 50 ألف جندي أمريكي، في حين تؤمن تايوان بأنه لولا الوجود العسكري والتعهد الأمريكي بالدفاع عن الجزيرة التي تسعى الصين إلى ضمها إليها، لقامت بكين بذلك منذ أعوام طويلة.
الصين أحد أهم أعمدة الشرق الراغبة في بسط نفوذها على العالم كوكيل شرقي عن القوى كافة في وجه الهيمنة الغربية الأمريكية، التي ترى استعادة جزيرة تايوان، أحقية شرعية لها، فيما ترى واشنطن أنها الوصي على الجزيرة منذ 1979، فيما تتغنى الصين بأصول هذه الجزيرة، التي تمتد إلى عام 239، عندما أرسل الإمبراطور كتيبة لاستكشاف المنطقة، وهو سلوك كانت تتبعه بكين لدعم مطالباتها الإقليمية.
انتصرت اليابان في الحرب الصينية - اليابانية الأولى في 1895، واضطرت حكومة تشينج إلى التنازل عن تايوان لليابان، وبعد الحرب العالمية الثانية، استسلمت اليابان وتخلت عن السيطرة على الأراضي، التي أخذتها من الصين، وبدأت جمهورية الصين، باعتبارها أحد المنتصرين في الحرب، في حكم تايوان بموافقة واشنطن ولندن، مبتكرة صيغة "دولة واحدة ونظامان"، تمنح بموجبها تايوان استقلالية كبيرة، لتتبعها بقانون مناهضة الانفصال، الذي ينص على حق الصين في استخدام "الوسائل غير السلمية" ضد تايوان إذا حاولت "الانفصال" عنها.
تعد الصين المسألة التايوانية منعطف تحول في طريقها نحو تسيد العالم والسيطرة عليه، لتمارس أدوارا أكثر وضوحا وقسوة في الآونة الأخيرة بتحد واضح وصريح لواشنطن وحلفائها الأوروبيين، إذ أعلنت تايوان عن أكبر توغل للقوات الجوية الصينية في مجال دفاعها الجوي، حيث حلقت 38 طائرة صينية على موجتين، بالتزامن مع احتفال بكين بتأسيس "جمهورية الصين الشعبية"، لتخترق 13 طائرة صينية أخرى المجال الجوي، إضافة إلى عشر طائرات من طراز جي - 16 و2 إتش - 6 وطائرة إنذار مبكر، وقد سبق التوغل الأخير توغل آخر في يونيو الماضي بمشاركة 28 طائرة تابعة للقوات الجوية الصينية.
اقتحام الأجواء التايوانية، جاء بذريعة أن مثل هذه التحركات تهدف إلى حماية سيادة البلاد، وإلى التحرك ضد "التواطؤ" بين تايوان والولايات المتحدة، فيما تعد الصين بحر الصين الجنوبي بأغلبيته يقع ضمن سيادتها، وهي تخوض نزاعا على هذا الصعيد مع دول أخرى، كما تعد جزيرة تايوان، التي تتمتع بحكم ذاتي، جزءا لا يتجزأ من أراضيها.
هل سيكتفي الروس والصينيون بأوكرانيا وتايوان أم سيقضمان الدول الواحدة تلو الأخرى، حتى يصلا إلى الغاية الكبرى، وهي السيطرة على العالم؟ كل هذه المؤشرات رهن صبر أمريكا في عدم الانجرار نحو فرض سطوتها بالقوة على روسيا والصين ووقوع ما كان يخشاه العالم من حرب عالمية ثالثة، قد تعيد العالم إلى المربع الأول من التخلف، إذ تمتلك الدول الكبرى اليوم أسلحة تقليدية وغير تقليدية، قادرة على أن تجعل العالم كرة ملتهبة من النيران.

الأكثر قراءة