ماذا يتطلب الأمر لتجنب مستقبل تحكمه الفوضى؟
في مثل هذا الشهر قبل خمسة أعوام، نشر كتاب بعنوان "عالم في فوضى"، لريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، شغل سابقا منصب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية "2001 - 2003"، كانت الفرضية التي طرحها الكتاب تتلخص في أن نهاية الحرب الباردة لم تكن إيذانا ببدء عصر يتسم بقدر أعظم من الاستقرار، والأمان، والسلم، كما توقع كثيرون. فبدلا من ذلك ظهر عالم حيث أصبحت الغلبة فيه للصراع وليس للتعاون.
انتقد بعض الناس الكتاب في ذلك الوقت بأنه سلبي ومتشائم على نحو مفرط. الآن، بعد الأحداث التي شهدتها تلك الأعوام الخمسة، فربما يستحق الكتاب الانتقاد بسبب تفاؤله النسبي، بحسب المؤلف ريتشارد هاس. لقد أصبح العالم الآن مكانا أشد فوضوية مما كان عليه قبل خمسة أعوام، وأغلب الميول والنزعات تسير في الاتجاه الخاطئ.
الواقع أن الفجوة بين التحديات والاستجابات على المستوى العالمي ضخمة ومتنامية. كشفت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 عن أوجه القصور التي تعيب الآليات الصحية الدولية. ونحن ندخل الآن عامنا الثالث من الجائحة، ومع ذلك لا نزال نجهل أصولها ومنشأها، بسبب المماطلة الصينية.
ما نعرفه هو أن أكثر من خمسة ملايين من البشر، وفي الأرجح 15 مليونا، فقدوا حياتهم، ونعرف أيضا أن نحو ثلاثة مليارات إنسان "كثير منهم في إفريقيا" لم يتلقوا حتى الآن ولو جرعة واحدة من لقاح كوفيد - 19، كما نعرف أن الجائحة المستمرة تسببت في تقليص الناتج الاقتصادي العالمي بما يعادل تريليونات الدولارات. ويستمر زحف تغير المناخ. لقد أصبح العالم بالفعل أكثر دفئا بما يزيد على درجة مئوية واحدة مقارنة بما كان عليه عند بداية الثورة الصناعية، وهو في طريقه لأن يصبح أكثر دفئا، وأصبحت أحداث الطقس الشديدة القسوة أكثر تواترا.
تعهدت الحكومات بتحسين أدائها، لكن أداءها لم يتضح بعد، في بعض الحالات، بما في ذلك الصين والهند، وهما أكبر دولتين في العالم من حيث عدد السكان، كانت التعهدات جديرة بالملاحظة بسبب افتقارها إلى الطموح وحس الإلحاح والضرورة العاجلة. ويظل الفضاء السيبراني "الإلكتروني" أشبه بالغرب المتوحش، حيث لا يوجد مأمور على استعداد لوضع حدود للسلوك المقبول أو قادر على ذلك. لن نجد حتى أي قدر من التظاهر بالتعاون العالمي.
بل نرى بدلا من ذلك التكنولوجيا تتفوق على الدبلوماسية، حيث تبذل الحكومات الاستبدادية جهودا كبيرة لتطويق مجتمعاتها بالجدران في حين تنتهك فضاء الآخرين السيبراني لزرع بذور الفتنة السياسية أو سرقة التكنولوجيا. ويستمر الانتشار النووي. فقد زادت كوريا الشمالية من حجم ترسانتها النووية كما ونوعا ونجحت في تحسين مدى ودقة توجيه صواريخها.
وفي أعقاب القرار الذي اتخذته الولايات المتحدة من جانب واحد في 2018 بالخروج من الاتفاق الذي وضع سقفا مؤقتا لقدرات إيران النووية، انتقلت الجمهورية الإيرانية من كونها على بعد عام واحد من امتلاك سلاح نووي إلى ما لا يتجاوز بضعة أشهر أو حتى أسابيع. وأصبح التنافس بين القوى العظمى أشد وضوحا من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة.
فقد تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين بسرعة بالغة، ويرجع هذا في الأغلب إلى الاحتكاكات التجارية والاقتصادية، فضلا عن قوة الصين العسكرية المتنامية وسياستها الخارجية المتزايدة. وعلى خلفية المنافسة الاقتصادية المتزايدة الحدة والصراع المحتمل بشأن تايوان، لم يعد من الواضح إذا ما كانت الدولتان قادرتين على التعاون بشأن تحديات عالمية مثل الصحة العامة وتغير المناخ.
ربما يكون بوسعنا أن نزعم أن روسيا أصبحت أشد سخطا على النظام العالمي. فبعد مرور ثلاثة عقود من الزمن منذ انتهت الحرب الباردة، يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يبدو مستقرا في السلطة في المستقبل المنظور، إلى وقف توسع حلف شمال الأطلسي أو عكس اتجاهه إن أمكن.
لا يخلو الأمر أيضا من تطورات أخرى تدعو إلى القلق. فقد تجاوز عدد النازحين المشردين 80 مليونا، واحد من كل مائة. وأضعاف هذا الرقم من البشر يتحملون ما لا يمكن وصفه إلا بأنه أزمة إنسانية، كما أصبح الشرق الأوسط موطنا لعدة حروب جارية، أهلية وإقليمية في الوقت ذاته. وتتقهقر الديمقراطية في أجزاء كثيرة من العالم، ليس فقط في الحالات المأساوية مثل ميانمار والسودان، بل أيضا في أجزاء من أمريكا اللاتينية بل حتى أوروبا.
وتعد هايتي وفنزويلا دولتين فاشلتين في الأساس، وكذا ليبيا، وسورية، واليمن. وتبدو أفغانستان في طريقها إلى التحول مرة أخرى إلى دولة رائدة على مستوى العالم في تصدير الإرهاب، وإنتاج الأفيون، والبؤس. أضف إلى كل هذا عاملا حاسما آخر، فقد أصبحت الولايات المتحدة في حالة من الفوضى الداخلية أشد مما كانت عليه قبل خمسة أعوام، حيث بلغ الاستقطاب السياسي مستويات غير مسبوقة من الارتفاع، وبرز العنف السياسي كتهديد بالغ الخطورة. ولم يعد من الممكن اعتبار التداول السلمي للسلطة السياسية بعد الانتخابات أمرا مفروغا منه.
وبدوره، أدى هذا الواقع الداخلي إلى التعجيل بانسحاب أمريكا من القيادة العالمية بعد 75 عاما. ولا توجد دولة أخرى قادرة على الاطلاع بهذا الدور ومستعدة له. من المؤكد أن بعض التطورات الإيجابية تستحق الذكر: الإنشاء السريع للقاحات التي تقلل بشكل كبير من التعرض لخطر الإصابة بعدوى كوفيد - 19، والتكنولوجيات الخضراء الجديدة، والتعاون المتزايد بين الولايات المتحدة وعديد من شركائها لمقاومة الصين الأكثر قوة وشراسة.
وحقيقة بسيطة مفادها أن التنافس بين القوى العظمى لم يتدهور حتى الآن إلى مستوى الحرب. ترى ماذا يتطلب الأمر لتجنب مستقبل تحكمه الفوضى؟ قد تشمل القائمة المختصرة التطعيم ضد كوفيد - 19 على نطاق واسع، وإنتاج لقاحات جديدة فعالة ضد أي متحورات قد تنشأ في المستقبل، وتحقيق اختراق تكنولوجي أو دبلوماسي من شأنه أن يعمل على إبطاء تغير المناخ، والتوصل إلى تسوية سياسية في أوكرانيا تعزز الأمن الأوروبي، والتوصل إلى نتيجة مع إيران تحول دون تحولها إلى قوة نووية أو حتى شبه نووية، وعلاقات أمريكية صينية قادرة على وضع حواجز حماية لإدارة المنافسة وتجنب الصراع، والولايات المتحدة القادرة على إصلاح ديمقراطيتها بالقدر الكافي حتى يتسنى لها التركيز على أحداث العالم.
كما هي الحال دوما، لا مفر من الرضا بالقليل، في السراء والضراء. لكن الأمر الواضح الآن هو أن الاتجاهات لن تتحسن من تلقاء ذاتها. نحن في احتياج إلى الإبداع، والدبلوماسية، والإرادة الجماعية لتحويل الأمور. لكن من المؤسف أننا نعاني عجزا واضحا في المدد من البندين الأخيرين.