كازاخستان .. منفذ روسيا لتجاوز العقوبات الغربية
انتهت الأحداث التي شدت أنظار العالم، مطلع العام الجاري، بعدما ساد الاعتقاد أن موجة جديدة من الثورات الملونة بدأت من كازخستان، عقب تحول الاحتجاجات على رفع الأسعار في غرب البلاد إلى اضطرابات، تخللتها أعمال عنف وشغب، أودت بحياة عشرات من الأفراد، وأوقفت المرافق الكبرى للدولة عن العمل، ملحقة أضرارا بليغة بكثير منها.
وقادت ليس فقط إلى إقالة الحكومة، وعدد من قادة الأجهزة الأمنية، بل إلى التغيير الأكبر في هيكل القيادة السياسية، منذ استقلال كازاخستان، وهو إنهاء الدور السياسي للرئيس السابق نور سلطان نزار باييف، وهو الزعيم التاريخي الذي حكم البلاد، منذ الاستقلال حتى 2019، وأطلق اسمه على عاصمة البلاد، نور سلطان بدل أستانا، واحتفظ لنفسه بمنصب سكرتير مجلس الأمن، حتى إبعاده بسبب هذه الاحتجاجات.
ذهب مراقبون إلى أن الوضع الداخلي كان محتقنا، ما ساعد على سرعة تحول احتجاج محلي إلى أزمة سياسية عارمة بلا قيادة واضحة. عززت قائمة مطالب النشطاء هذا الطرح، فقد طالب المحتجون بخمسة مطالب أساسية: تغيير حقيقي للحكومة، انتخابات مباشرة لحكام المقاطعات بدل التعيين الرئاسي، عودة دستور 1993 الذي حدد فترات الرئاسة وسلطات الرئيس، ضمان حقوق وحريات النشطاء المدنيين، ووصول شخصيات غير مرتبطة بالنظام إلى مناصب المسؤولية في الدولة.
تاريخيا، هذه ثالث أزمة سياسية تشهدها الدولة، بعد أحداث 2019 التي استقال بسببها الرئيس نزار باييف، وأحداث 2011 التي أودت بحياة عشرات من العمال، منذ إعلان استقلال الدولة عن الاتحاد السوفياتي. وكان دوما نموذج الدولة المستقرة بنظام سياسي وأمني فعال، منذ نحو 30 عاما، بخلاف الجمهوريات السوفياتية الأخرى.
تعد كازاخستان تاسع أكبر دولة في العالم بمساحة تزيد على 2,7 مليون كيلومتر مربع، وصاحبة أكبر اقتصاد في آسيا الوسطى، حيث سجلت نموا كبيرا في الماضي. يشكل النفط 21 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي للبلاد، ولا تزال تتربع على قائمة الدول المنتجة لليورانيوم في العالم. كما تضم مركز قاعدة "بايكونور" الفضائية أكبر منصة إطلاق في العالم، تستأجرها روسيا حاليا، حيث انطلق قبل نحو 60 عاما يوري جاجارين رائد الفضاء السوفياتي ليصبح أول رجل في الفضاء. ويربطها مع روسيا أطول خط حدودي بري يصل إلى 7600 كيلومتر.
استحضار ما سبق كفيل بتفسير جوانب كثيرة حول ما جرى خلال ثمانية أيام في بلاد الكازاخ، بدءا باتهام ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، الولايات المتحدة بتأجيج الصراع في كازاخستان، وانتهاء بانزعاج أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي من استدعاء السلطات قوات أجنبية لمواجهة اضطرابات داخلية، مرورا بتدخل قوات منظمة "معاهدة الأمن الجماعي" بقيادة روسيا لإنهاء الفوضى واستتباب الأمن، في مختلف المناطق المتمردة في الدولة.
مهما كانت خلفيات الأحداث، مطالب اجتماعية تم استغلالها لأهداف سياسية داخلية، أم تدخل أجنبي بغطاء مدني، يرمي إلى تطويق روسيا، يبقى المؤكد أن النهاية التي آلت إليها الأحداث، كانت غير متوقعة في عديد من العواصم. فعديد من الخبراء تحدثوا عن ساحة جديدة، تضاف إلى الساحات الملتهبة للحرب بالوكالة بين موسكو وواشنطن، قبل أن يقطع فلاديمير بوتين الشك باليقين، معلنا منع اللعب في "الحديقة الخلفية" لروسيا.
شكلت أحداث كازاخستان فرصة مواتية لروسيا، لاستعادة مجد إمبراطوريتها، والعودة إلى المشهد الدولي بقوة الدولة العظمى مجددا، فالقوقاز وآسيا الوسطى باحة خلفية يحرم على الخصوم الاقتراب منها، فهذه المناطق امتداد جيو سياسي لروسيا، لن تسمح للآخرين بالاقتراب منه، فجمهوريات آسيا الوسطى كانت دوما المنفذ الذي أنقذ روسيا من العقوبات الغربية.
وشكل الهجوم على القاعدة الفضائية الروسية في كازاخستان هدية ثمينة وضعها المتظاهرون بين أيدي الحكومتين لإضفاء طابع الشرعية على استدعاء التدخل الروسي في الدولة، لحماية القاعدة الفضائية الروسية، وقبلها ضمان السيطرة والتحكم في سوق الغاز، فخسارة كازاخستان تعني فقدان "غازبروم" احتكار خطوط نقل الغاز الطبيعي من كازاخستان وتركمانستان، نحو الاتحاد الأوروبي. وفوق كل ذلك بث رسالة اطمئنان إلى بقية دول آسيا الوسطى المحسوبة في الصف الروسي.
كما عدت الأزمة اللحظة تاريخية لبيان فاعلية الأحلاف الروسية، ونقصد تحديدا هنا "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" التي يعود تاريخ تأسيسها إلى 1992، وتضم حاليا كلا من: روسيا، أرمينيا، كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، وبيلاروسيا. وكانت المادة 4 في ميثاقها، التي تتعلق بالدفاع الجماعي مقابلا للمادة 5 في ميثاق حلف شمال الأطلسي، سند الرئيس الكازاخي لطلب مساعدة كازاخستان في أزمتها. واستجابت المنظمة بإرسال نحو 2500 جندي أو قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تتألف في أغلبها من قوات روسية.
يبدو أن سياسة "حزام النار" التي تحاول واشنطن أن تفرضها قرب الحدود الروسية، ردا على الأزمة الأوكرانية، جاءت بمفعول عكسي لما كان يتوقع منها، فالرابح الأكبر حتى الآن مما جرى في كازاخستان هو روسيا، التي أتقنت اللعب بذكاء. فبعد نجاح التدخل العسكري في مهمته أعلنت مغادرته الدولة 22 من الشهر الجاري، حتى لا تمنح مبررات لانتقادها "استعمار، تدخل أجنبي...".
ذهب مراقبون إلى اعتبار الأزمة في كازاخستان "صداعا في توقيت خطأ"، وذلك لاقترانها بالأزمة الأوكرانية، قبل أن يتثبت لديهم أن معركة كازاخستان هدية من السماء بالنسبة إلى موسكو، فقد عززت موقعها على طاولة نقاش الملف الأوكراني، كما منحتها فرصة إثبات أنها حليف قوي عند الشدائد، وهذا سيشد من أزر اتحاد الجمهوريات عبر تعزيز الشراكات واتفاقات الأمن المشتركة، علاوة على تيسير مهمة استمالة النظام في كازاخستان بعدما أسدته له موسكو من خدمات للحفاظ على بقائه.