حتى لا يعود «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية

حتى لا يعود «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية
أثبت تنظيم داعش أنه عدو يتمتع بقدرة مميزة على التكيف.

في الشهر الماضي، أعلن الجيش الأمريكي انتهاء مهمته القتالية في العراق وانتقاله إلى مهمة "المشورة والدعم والتمكين". ومع ذلك، بينما لا تزال التساؤلات قائمة حول التزام إدارة بايدن بأمن حلفائها بعد الانسحاب الكارثي من أفغانستان، لم تسحب الولايات المتحدة حتى الآن أيا من جنودها البالغ عددهم 2500 جندي المتمركزين في العراق. وفي الواقع، تشكل هذه القوات عنصرا رئيسا من عناصر الأمن العراقي خلال الفترة المقبلة، كما يتجلى في تصريح يحيى رسول الناطق العسكري العراقي في 31 كانون الأول (ديسمبر)، الذي قال "إن بلاده لا تزال بحاجة إلى قوات التحالف لتساعدها على محاربة تنظيم داعش، خاصة في مجالات القوة الجوية والدفاع الجوي وطيران الجيش ونظام الاستخبارات".
وكما هو مفصل في دراسة أجراها أخيرا عيدو ليفي كاتب هذا المقال زميل مشارك في "برنامج الدراسات العسكرية والأمنية" لمعهد واشنطن تحت عنوان "جنود نهاية الزمان: تقييم الفعالية العسكرية لتنظيم داعش"، كان دعم التحالف لقوات الأمن العراقية و"قوات سورية الديمقراطية" التي يقودها الأكراد حاسما في تفكيك "خلافة" تنظيم داعش، ويظل أمرا حاسما في الحول دون نهوض التنظيم. وتنطوي الحرب ضد تنظيم داعش على دروس مهمة للجيش الأمريكي حول الطريقة المثلى لمحاربة الجماعات المتطرفة والعمل "عبر ومع ومن خلال" الحلفاء الإقليميين.

إبقاء "التنظيم" مقموعا

أثبت تنظيم داعش أنه عدو يتمتع بقدرة مميزة على التكيف، لذلك فإن التصدي له وللعناصر المتطرفة الأخرى على المدى الطويل يستوجب مضاهاة إبداعاته. وتتوافر أمام الولايات المتحدة خطوات كثيرة يمكنها اتخاذها لتبقى متفوقة على هذه التنظيمات.
تنمية ثقافة الابتكار: أظهر تنظيم داعش ابتكارا عالي المستوى، لكن التحالف كان بطيئا في مواكبته. فقد بادر "التنظيم" إلى استخدام الطائرات الصغيرة بدون طيار على نطاق واسع كمنصات لحمل المتفجرات وجمع المعلومات الاستخبارية في الوقت الفعلي، وهي ممارسة تقتدي بها الولايات المتحدة والصين وروسيا وإيران وتركيا وغيرها. وبالمثل، استخدم "التنظيم" السيارات المفخخة بشكل مكثف وغير متوقع في بعض مناطق القتال، فتمكن من التسبب في دمار كبير في صفوف القوات المدافعة. وتعود هذه الابتكارات إلى ثلاثة عوامل رئيسة، هي:
الضرورة الأيديولوجية المروعة لتنظيم داعش لاحتلال مناطق شاسعة بسرعة، الأمر الذي استلزم قدرات عسكرية قوية. الاقتضاء المتكرر لمحاربة الأعداء المتفوقين ماديا، الأمر الذي شجعه على اعتماد تدابير مبتكرة غير متناسقة واستعداد تنظيم داعش لتكبد خسائر كبيرة، ما أعطاه مجالا أكبر لتجربة تكتيكات مثل التفجيرات الانتحارية.
بإمكان الولايات المتحدة والقوات الشريكة لها تعزيز تفكيرها الإبداعي وتكتيكاتها المبتكرة الخاصة بها من خلال استعمال التكنولوجيا المتقدمة بشكل أكبر. على سبيل المثال، استخدمت قوات التحالف بانتظام الحرب الإلكترونية لدعم عمليات القوات العراقية و"قوات سورية الديمقراطية"، في حين ساعد الاستخدام المحدود لأجهزة التشويش التابعة للتحالف على التصدي للطائرات بدون طيار التابعة لتنظيم داعش. ولدى القوات الأمريكية كل الأسباب لمواصلة دمج هذه القدرات في عمليات مكافحة الإرهاب. فهذه الجهود لا تشكل خطرا إضافيا يذكر - إن وجد - على عناصر قوات التحالف، بل تقوي الشركاء وتمكن القوات من استعمال تقنيات وتكتيكات جديدة. وقد تثبت هذه النقطة الأخيرة فائدتها بشكل خاص في سياق بحث الولايات المتحدة عن طرق مبتكرة للتنافس مع الصين وروسيا، علاوة على ردع الجهات الفاعلة الخبيثة مثل إيران ووكلائها.
تعميق العلاقات مع الشركاء: لا يزال "جهاز مكافحة الإرهاب" العراقي شريك الولايات المتحدة الأكثر عدوانية وتحفيزا ومرونة وتحملا للمخاطر ضد تنظيم داعش. فالعلاقة الطويلة والوثيقة التي جمعت بين هذا الجهاز وقوات العمليات الخاصة الأمريكية سهلت تكيفه السريع، والمضني، في الانتقال من مكافحة الإرهاب إلى الحرب التقليدية. ومع عودة تنظيم داعش إلى طابعه التمردي اليوم، استعاد "جهاز مكافحة الإرهاب" ببراعة دوره في مكافحة الإرهاب، لكنه لا يزال يستخدم بشكل مفرط، في حين يواجه الجيش العراقي صعوبات مستمرة. وظهر نمط مشابه في سورية، حيث دعم التحالف تحول "قوات سورية الديمقراطية" إلى قوة قادرة على هزيمة تنظيم داعش في ساحة المعركة، ويستمر اليوم في تعزيز قدراتها في مجال مكافحة الإرهاب. وفي المرحلة المقبلة، يجب على الولايات المتحدة تعميق هذه العلاقات بهدف تطوير قدرات أقوى في مجال مكافحة الإرهاب.
الاستفادة من التقنيات الأبسط: على غرار تنظيم داعش، الذي استخدم ما توفر من طائرات بدون طيار عادية ومركبات بسيطة في بعض من أسلحته الأشد ضررا، يمكن للتحالف أن يزود شركاءه بإمكانات مماثلة منخفضة التكلفة. فالمروحيات الرباعية الأقل تطورا تنتشر بشكل متزايد بين الجيوش المتقدمة وقد تكون مفيدة ضد المتطرفين، كما أن المركبات الأرضية البسيطة التي يتم التحكم فيها عن بعد تحاكي تأثير التفجيرات الانتحارية أو تساعد على حماية القوات الصديقة منها. وتعد الأسلحة المصممة لمواجهة الطائرات بدون طيار والمركبات الخفيفة - مثل أجهزة التشويش والصواريخ التي تطلق من الكتف وأشعة الطاقة المدمرة - وسيلة أخرى قليلة التكلفة وسهلة الاستخدام لتعزيز استعداد الشركاء للتهديدات المتطرفة. وهذا صحيح بشكل خاص في الحالات التي لم تحصل فيها القوات بعد على أسلحة متطورة محلية أو تطور مثل هذه الأسلحة، كما هي الحال مع "قوات سورية الديمقراطية".
تحسين عمليات المعلومات: نجح تنظيم داعش في استخدام جهاز إعلامي واسع النطاق لترهيب خصومه، وتحفيز حركة التجنيد، وتأجيج زخم أتباعه، وتقويض مصداقية التحالف. وفي معظم الأحيان، اتخذت الولايات المتحدة وشركاؤها موقفا دفاعيا في مجال المعلومات، حيث كان تجاوبهم بطيئا جدا وذلك من خلال آلية استجابة مضنية. في المقابل، أمد تنظيم داعش كثيرا من أتباعه بسيل ثابت من المنشورات والمقالات ومقاطع الفيديو وغيرها من المواد على وسائل التواصل الاجتماعي، مصورة قوات التحالف في الغالب على أنها ضعيفة وغير مهتمة بأرواح المدنيين. وبسبب قلة الردود المهمة من جانب التحالف، تمكن "التنظيم" من التحرك في فضاء المعلومات بدون أن يلقى أي معارضة تذكر، خاصة تضخيم مزاعمه عندما كان يحظى باهتمام وسائل الإعلام الرئيسة. وأدت هذه الجهود مجتمعة إلى إعاقة عمليات التحالف ومخططاته، وحولت انتباهه في بعض الأحيان عن مواصلة الحرب إلى طمأنة مناصريه.
وهذا نقص خطير ينبغي للولايات المتحدة العمل على تصحيحه إذا كانت تأمل في إبطال التهديدات المتطرفة في المستقبل. ومن الضروري تغيير الصلاحيات والإجراءات من أجل تبسيط الاتصالات، كما أن قوات التحالف تتطلب مزيدا من الخبراء المتمرسين في تشغيل وسائل الإعلام والقادرين على جمع المعلومات ومشاركتها في وقت شبه فعلي. وتكتسب هذه المهمة أهمية خاصة الآن، حيث يواجه الجيش الأمريكي تدقيقا متزايدا من وسائل الإعلام المحلية على خلفية سلوكه في الحرب ضد تنظيم داعش.

محاربة المتطرفين "هناك" لضمان الأمن "هنا"

يجب على أصحاب القرار أن يضعوا في حسبانهم باستمرار أن المتطرفين يواصلون حملات الحرب التقليدية كقاعدة وليس كاستثناء، فأيديولوجيتهم تستوجب احتلال الأراضي وإدارتها والدفاع عنها، كما حصل في أفغانستان والعراق وسورية واليمن وليبيا ونيجيريا والصومال وموزمبيق والفلبين وأماكن أخرى. وقد استخدموا أيضا هذه المناطق كمنصات لشن هجمات إرهابية على الولايات المتحدة وأوروبا وغيرهما. ونظرا إلى استعدادهم لإلحاق الضرر بالمدنيين والقتال حتى الموت، يستلزم إخراجهم من الأراضي بعد استيلائهم عليها جهودا عسكرية شاقة يمكنها تدمير مدن بأكملها وقتل آلاف وتشريد ملايين، كما سبق أن حدث مع تنظيم داعش.
لذلك، فإن تعميق الشراكات العسكرية الأمريكية في المنطقة أمر بالغ الأهمية، لأن المخططات الإمبريالية لتنظيم داعش لم تظهر أي بوادر انحسار بعد سقوط "الخلافة" المزعومة. على إدارة بايدن طمأنة الحلفاء بصوت عال بأنها لا تنوي سحب أي قوات لها، خاصة بعد سيطرة "طالبان" على أفغانستان. وبالفعل، أصبحت أفغانستان اليوم بؤرة محتملة لنهوض تنظيم داعش، شأنها شأن بضعة أجزاء من سورية، أي مراكز الاحتجاز، ومخيمات اللاجئين الخاضعة لسيطرة "قوات سورية الديمقراطية"، والأراضي التابعة لنظام الأسد في البادية السورية. إن تخفيف الضغط العسكري الأمريكي في مثل هذه المناطق سيكون كارثيا.
وأخيرا، يجب على الإدارة الأمريكية أن تسلط الضوء علنا على فوائد الالتزامات الأمريكية في الشرق الأوسط. فقد انتشرت فكرة وهمية نافعة عن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة بشكل عام، وتأججت مع إنهاء مهمتها القتالية في العراق بشكل رمزي، وتصريحات الرئيس بايدن ومسؤولين آخرين التي ألمحت خطأ إلى أن أمريكا لم تعد تملك قوات في سورية. وبدلا من ذلك، يجب على الإدارة الأمريكية ألا تتردد في توضيح كيف أن التزاما صغيرا - وهو جزء بسيط فقط من الانتشار الأمريكي في أوروبا وشرق آسيا - أسهم في الحد من الإرهاب، ودعم حقوق الإنسان، وتخفيف المعاناة في الشرق الأوسط وحول العالم.

الأكثر قراءة