سلاسل التوريد دون حلول جذرية .. معادلة الطلب تحت «تأثير السوط»

سلاسل التوريد دون حلول جذرية .. معادلة الطلب تحت «تأثير السوط»

في الأشهر الأخيرة من العام الماضي، خاصة في الأسابيع التي سبقت الأعياد، كان هناك قلق كبير في العديد من دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، بشأن نقص الطعام والهدايا. كانت تلك المخاوف تعبيرا جليا عن تفاقم مشكلات سلاسل التوريد نتيجة جائحة كورونا.
في الواقع لم يكن الأمر حصرا على قلق مشروع من نقص العديد من السلع المهمة، بل كان هناك نقص حاد في سلع حيوية للغاية في المجال الصناعي أبرزها رقائق الكومبيوتر، واتضح تأثير هذا النقص في العديد من الصناعات في مقدمتها صناعة السيارات، كما أثيرت مخاوف بشأن إمدادات الليثيوم لبطاريات السيارات الكهربائية، وامتد الأمر إلى بعض من السلع الحيوية في صناعات مختلفة أخرى.
لم تكن مشكلات إدارة سلاسل التوريد تحتل مكانة بارزة في النقاشات الاقتصادية السابقة لجائحة كورونا، ولكن منذ ظهر الوباء والقضية في مقدمة النقاش العالمي باعتبارها تحديا قويا ماثلا للعيان، تحديا سيستمر لبعض الوقت بما يحمله ذلك من مشكلات للاقتصاد الدولي ولقطاع المستهلكين.
السؤال الآن هل سنواجه في عامنا هذا نقصا في العديد من السلع أم أن تلك المشكلة ستنحسر هذا العام؟ باختصار هل أزمة سلاسل التوريد في طريقها للحل في 2022 أم علينا أن نكون أكثر واقعية وإدراكا أن الأزمة متواصلة وستبقى معنا لبعض الوقت؟
لفهم طبيعة الأزمة يتطلب الأمر فهم آليات عمل سلاسل التوريد ذات الطبيعة المعقدة والمجزأة. فالمنتجات تصل إلى المستهلكين من خلال سلسلة من الشركات المعنية، التي تشمل عادة الشركات المصنعة وشركات الخدمات اللوجستية التي تقوم بتوفير عمليات التخزين والتوزيع والنقل، إضافة أيضا إلى تجارة التجزئة، ونظرا لتعدد أطراف تلك العملية فليس من المستغرب أن يكون النظام بأكمله شديد التعقيد، وإصابة أحد عناصره بارتباك أو قصور في الأداء يعيق النظام بأكمله عن العمل بالكفاءة المطلوبة أو الواجبة.
في العقود الثلاثة الماضية ومع هيمنة فلسفة التجارة الحرة ونجاح العولمة في ربط أجزاء ومكونات الاقتصاد العالمي ببعضها بعضا بصورة غير مسبوقة، فإن فلسفة متكاملة لإدارة سلاسل التوريد في شكلها المعاصر، أسهمت في تحسين الأداء العام للشركات بشكل كبير، وكانت لذلك انعكاسات إيجابية على الاقتصاد والمجتمع في كثير من الأحيان، إلا أن تلك الجهود تعرقلت بسبب وباء كورونا والتحديات التي أوجدها في طريق سلاسل التوريد العالمية.
كانت عمليات الإغلاق المتتابعة نتيجة وباء كورونا والقيود اللاحقة التي اختلف توقيتها وشدتها من دولة إلى أخرى، كانت كفيلة بإيجاد سلسلة من الضغوط غير المسبوقة على سلاسل التوريد العالمية، يضاف إلى ذلك بالطبع التحولات الجغرافية الكبيرة في العرض والطلب، ما أخل بالدقة المفرطة لسلاسل التوريد، وعززت أنماط التسوق الجديدة عبر الإنترنت ونقص السائقين في زيادة حدة المشكلة.
من جانبها، تقول لـ"الاقتصادية" الدكتورة اميلد كريس أستاذة مادة التسويق التجاري في جامعة لندن، إنه "عندما يتغير الطلب مؤقتا، يتضخم التأثير في كل مستوى من مستويات سلسلة التوريد، ويضيف كل مورد حاجزا إضافيا لطلبه ليكون في الجانب الآمن. وبالتالي يمكن أن تؤدي التغييرات الطفيفة في طلب العملاء إلى إيجاد طلب إضافي كبير على المواد الخام، وهذا ما يسمى بتأثير "السوط" فكما هو الحال مع السوط يمكن أن تؤدي ضربة صغيرة إلى ألم كبير للطرف الآخر".
وتستدرك قائلة "يمكن أن يكون تأثير السوط من انخفاض الطلب فجأة وكذلك ارتفاعه وأثناء الوباء اجتمعت هذه القوى أحيانا، على سبيل المثال، أسهم مزيج من الانهيار في الطلب على السيارات الجديدة وزيادة الطلب على الأجهزة الإلكترونية مثل أجهزة الكومبيوتر المحمولة ووحدات التحكم في الألعاب للترفيه، في نقص رقائق أشباه الموصلات".
وبالفعل السيارات الحديثة تحتوي أحيانا على ثلاثة آلاف شريحة، ما يجعل منتجي السيارات عملاء رئيسين للرقائق، ولكن مع انخفاض مبيعات السيارات في 2020، تمت إعادة توجيه إمدادات الرقائق إلى مصنعي السلع الإلكترونية الأصغر، وعندما عاد الطلب على السيارات للارتفاع مرة أخرى بعد بضعة أشهر، لم يكن هناك ما يكفي من الرقائق، واضطر صانعو السيارات إلى إيقاف خطوط الإنتاج، ولم يتمكنوا من صنع سيارات كافية لتلبية الطلب، وبدأوا في تخزين الرقائق ما زاد من سوء الوضع.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فالبيئة الاقتصادية والتجارية الدولية تتصف بالكثير من الصعوبات، فعلى سبيل المثال في المملكة المتحدة وباقي دول الاتحاد الأوروبي نتجت ضغوط سلسلة التوريد عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وما رافقها من زيادة في الإجراءات الروتينية وعمليات التفتيش عبر الحدود، ونتيجة لذلك تواصل الشركات حتى اليوم مواجهة مجموعة من تحديات الأعمال الدولية التي تتراوح من تقلب أسعار الصرف إلى صعوبة تكوين فرق إدارة ذات صبغة عالمية.
من جانبه، يشير نيكولاس شيفلينج الباحث في مجال إدارة سلاسل الإمداد إلى أن "الأعمال التجارية أصبحت دولية بشكل متزايد خاصة في الأعوام الأخيرة بفضل تقليل الحواجز التقليدية أمام حركة المنتجات والخدمات ورأس المال والأشخاص والمعلومات عبر الحدود، ومن ثم فإن الاختلالات في سلاسل التوريد اليوم يكون تأثيرها مضاعف في الشركات والصناعات المتنافسة، وعادة ما يتم تحميل الحاويات وشحنها وتفريغها وتحميلها مرة أخرى بشكل مستمر، ولكن الاضطرابات التجارية الشديدة الناتجة عن عملية الإغلاق وإغلاق الحدود أدى إلى كسر تلك الدورة، الآن الحاوية النموذجية تقضي 20 في المائة وقتا أطول في العبور عما كانت عليه قبل الجائحة".
ويضيف لـ"الاقتصادية" أنه في هذه البيئة المضطربة ارتفعت أسعار الشحن خاصة الأسعار على طرق التجارة الرئيسة بين الشرق والغرب بنسبة 80 في المائة على أساس سنوي، وذلك يضعف الانتعاش الاقتصادي، لأن زيادة بنسبة 10 في المائة في أسعار شحن الحاويات يمكن أن تقلل الإنتاج الصناعي بنسبة 1 في المائة.
ويقينا أن التقدم التكنولوجي أسهم في تشكيل الصناعة، لكن الجانب اللوجستي لا يزال يعتمد بشكل كبير - رغم تأثير التقدم التكنولوجي فيه - لا يزال يعتمد على القوى العاملة، وقد أدت موجة تسريح أعداد كبيرة من العاملين في القطاعات التي تخدم على سلاسل التوريد (الحاملين في الموانئ على سبيل المثال) بسبب سياسات الإغلاق إلى نقص العمالة في وقت ازداد فيه الطلب.
وفي كثير من الأحيان ونتيجة لأن جزءا كبيرا من الأيدي العاملة في هذا القطاع وتحديدا في الدول النامية والاقتصادات الناشئة ينتمي إلى مناطق ريفية ويأتي إلى المدن للعمل، فعندما تمت عملية الإغلاق عادوا إلى بلداتهم وقراهم، ولم يكن من السهل عكس تلك العملية بعد انتهاء سياسة الإغلاق، وهذا تحديدا ما حدث في فيتنام التي شهدت نزوحا جماعيا للعمال من المراكز الصناعية إلى المناطق الريفية، ولم يكن من السهل إعادتهم مرة أخرى إلى العمل.
ومشكلة القطاع اللوجستي لم تكن حصرا على الدول النامية أو الأسواق الصاعدة، وإنما طالت أيضا الدول المتقدمة حيث عانت أوروبا عامة والمملكة المتحدة على وجه الخصوص من مشكلة نقص سائقي الشاحنات.
في هذا السياق، يعتقد الدكتور ال.دي. مارك أستاذ إدارة اللوجستيات وسلاسل الإمداد، أن عدم اليقين هو سمة من سمات المشهد التجاري الدولي الذي تعمل فيه سلاسل التوريد، ونتيجة لذلك أصبحت الشركات الكبرى تركز بشدة على إدارة مخاطر سلاسل الإمداد.
وحول مستقبل سلاسل التوريد في هذا العام، يقول لـ"الاقتصادية" إن " ظهور المتحور أوميكرون قدم تذكيرا بأننا لا نزال نفتقد القدرة على التنبؤ، وإذا كان الاتجاه العام لسلاسل الإمداد سيتحسن هذا العام، فإن ظهور متغيرات جديدة خلال 2022 قد يؤدي إلى زيادة الضغوط الحالية، كما أن استراتيجية الصين التي ترمي إلى صين خالية من كورونا والاستمرار في القضاء على الفيروس وفرض قيود مشدد على عملية النقل قد يسبب مشكلات لسلاسل الإمداد عبر تعطيل عملية إنتاج السلع ونقل البضائع".
ويشير أيضا إلى احتمال أن ينخفض طلب المستهلكين هذا العام خاصة مع اتجاه البنوك المركزية لرفع أسعار الفائدة، لذلك قد تواجه بعض الشركات مشكلات لا تتعلق بنقص المعروض وإنما زيادة في المعروض من السلع، ما يتطلب منها تسوية معدلات إنتاجها حسب الطلب، رغم أنه سيكون من الصعب التنبؤ بالطلب.
ولهذا يشارك عدد كبير من الخبراء في هذا المجال الدكتور ال.دي. مارك في وجهة نظره بأن سلاسل التوريد ذات الرؤية الجيدة لحجم الطلب الفعلي إضافة إلى التواصل الواضح عبر المستويات المتعددة لسلاسل الإمداد ستكون ميزة كبيرة هذا العام لمن يمتلكها.
وفي الواقع فإن مشكلة سلاسل التوريد في الأمد الطويل تتمثل في ضرورة البحث عن سبل لتعزيز مرونتها، فالوباء أثار شكوكا حول جدوى الاستعانة بمصادر خارجية للإنتاج في مناطق بعيدة حتى وإن كانت تكلفة العمالة لديها منخفضة، كما أن المشكلات تفاقمت بسبب الاستراتيجيات الرامية لتعظيم كفاءة سلسلة التوريد، بما يعنيه ذلك من احتفاظ الشركات بمخزونات الحد الأدنى من مدخلات الإنتاج لديها بدعوى خفض التكاليف.
ويعتقد البعض أن أزمة سلاسل التوريد التي أصابت العالم في العامين الماضيين أتاحت فرصة جيدة ذات طبيعة عالمية لرصد الثغرات القاتلة في نظام سلاسل التوريد الدولية، والبحث عن حلول لها، لكن الجهود الراهنة والحديث الجاري عن عملية إصلاح كونية لسلاسل التوريد قد يتلاشى نتيجة تخفيف اختناقات الشحن.
ويرى الخبراء أن 2021 أظهر حدود نظام التوريد العالمي والثغرات التي يحملها في طياته، ومع عدم وجود حلول جذرية لوباء كورونا، واحتمال ظهور متحورات جديدة تهدد باحتمالية العودة إلى سياسات الإغلاق، فإن 2022 قد يشهد تحسنا في سلاسل التوريد دون أن يشهد حلولا جذرية للمشكلة.
من ناحيتها، تقول الدكتورة اميلد كريس أستاذة مادة التسويق التجاري في جامعة لندن، إنه "يجب أن تكون سلاسل الإمداد مرنة وقادرة على التكيف مع الاضطرابات الرئيسة حتى نتمكن من تطوير استراتيجيات وحلول طويلة الأجل لهذه التحديات المعقدة".
وتضيف "من المرجح أن يرى المستهلكون أسعارا أعلى هذا العام مع قيام الشركات بتمرير تكاليف الإنتاج المتزايدة وغيرها من التكاليف اللوجستية للعملاء، وهذا العام قد نشهد نقصا في بعض أنواع السلع من أرفف المحال التجارية، ما يتطلب من المستهلكين أن يتصفوا بالمرونة أيضا حتى يتم التغلب على المشكلة بصورة جذرية".

الأكثر قراءة