الفضاء مفتاح السيطرة العسكرية مستقبلا
أعاد حلف شمال الأطلسي، مطلع الأسبوع الماضي، موضوع عسكرة الفضاء إلى الواجهة، بعد قراره توسيع مبادئ دفاعه لتشمل الفضاء، ما يجعل الحلف ملزما بالرد العسكري الجماعي على أي هجوم مفترض، يستهدف الدول الأعضاء من الفضاء الخارجي. واستندت وثيقة "السياسة الشاملة للناتو في الفضاء" إلى اتفاق الحلفاء، في قمة بروكسل 2021، على ضرورة سريان مقتضيات المادة 5 من ميثاق الناتو على الهجمات من الفضاء الخارجي، ليضاف بذلك إلى المجال السيراني في نظام الأمن والدفاع الجماعي للحلف.
يذكر أن إعلان الولايات المتحدة الأمريكية 2019، إنشاء فرع خاص في الجيش الأمريكي باسم "القوات الفضائية"، تسند إليها مهام تنفيذ العلميات العسكرية لأمريكا بحرية في الفضاء الخارجي، مثل قفزة نوعية في سباق التسلح الفضائي، بعد أن اقتصرت الدول المتصارعة "الصين، روسيا، فرنسا، الهند..." على وحدات خاصة لهذه المهمة، لتكون الخطوة الأمريكية بداية إيقاع جديد في معركة السيطرة على الفضاء.
القوات الفضائية الأمريكية
يعد التأسيس الرسمي لقوة فضائية أمريكية، تحولا رئيسا في العقلية الأمريكية بشأن الفضاء، فمن عقلية استكشافية بقيادة مدنية إلى عسكرة تدريجية، وذلك بهدف قطع الطريق أمام الصين الطامحة لأن تصبح قوة فضائية رائدة بحلول 2045. يعيد هذا التحرك إلى الأذهان ذكريات "حرب النجوم" زمن الحرب الباردة، بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي.
تنظر واشنطن إلى الفضاء باعتباره ساحة معركة، مع توالي الإشارات الصينية إلى أن الفضاء جزء من الحلم الصيني "طريق الحرير الفضائي"، ينبغي إثبات التفوق والهيمنة عليها. وتذهب في تأسيس للفرع السادس في القوات المسلحة الأمريكية "القوات الفضائية" إلى أن الوقت قد حان للعمل بأحكام الفصل 51 من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يتيح لأي "دولة استخدام القوة العسكرية لحماية نفسها من الأعمال العدائية، وحماية ممتلكاتها في الفضاء".
دشنت واشنطن هذا الصراع 2011، حين أقر الكونجرس الأمريكي تعديلا لوزارة الدفاع، يحظر أي تعاون ثنائي بين وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" وسلطة الفضاء الوطنية الصينية "سينسا" أو أي شركة تابعة للصين، في غياب تصريح خاص بشأن هذا التعاون. ولم تتردد أمريكا في الاستعانة بالقطاع الخاص في هذه المعركة، فالتقارير تتحدث عن وجود أكثر من 20 شركة أمريكية "سبيس إكس، بلو أوريجينز..." بخطط طموحة للاستثمار في الفضاء، ومضاعفة قيمة الصناعة الفضائية، البالغة قيمتها 1.4 تريليون دولار، ثلاث مرات بنهاية العقد الجاري.
البرنامج الفضائي الصيني
لم يحل القرار الأمريكي دون تشبث الصين بحلمها، فأقدمت خلال عشرة أعوام فقط على إنشاء محطة فضائية بديلة عن محطة الفضاء الدولية ISS، التي يتوقع أن تشرع في العمل بشكل كامل في النصف الثاني من العام الجاري، ما يؤكد قوة وقدرة برنامج الفضاء الصيني على منافسة البرنامج الأمريكي، في الصراع من أجل كسب معركة الفضاء.
سبق للصين أن أعلنت، أوساط العام الماضي، نجاحها في إكمال نظام "بايدو" Beido للملاحة بالأقمار الاصطناعية، المكون من 35 قمرا اصطناعيا، في مدارات مختلفة حول الأرض، لتحديد الموقع على الأرض، ما يعني استغناء بكين عن التكنولوجيا الأمريكية الخاصة بنظام تحديد المواقع GPS، وتوفير منظومة ملاحة عالمية محدثة بين يدي الجيش الصيني، لما لهذه التكنولوجيا من أهمية عسكرية فائقة.
لا تتوانى بكين في تأكيد سلمية برنامجها الفضائي، بالإشارة إلى أغراضه التجارية والعلمية، ما جعلها تعارض وبشدة خطوة قوات الفضاء الأمريكية، معتبرة أنها "انتهاك خطير للإجماع الدولي بشأن الاستخدام السلمي للفضاء الخارجي، الأمر الذي يمكن أن يقوض التوازن الاستراتيجي والاستقرار العالمي". وطلبت الصين من أمريكا الوفاء بالمثل التي أطرت إنشاء "الناسا" 1958، حيث أعلن الكونجرس حينها "أن سياسة الولايات المتحدة هي ضرورة تكريس الأنشطة التي تتم في الفضاء للأغراض السلمية من أجل منفعة كل البشرية".
تعدت الصين حدود التنديد نحو بث رسالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بإطلاقها قمرا اصطناعيا إلى المريخ، تحدث الخبراء عن تجاوزه الأهداف المدنية نحو غايات عسكرية، لتكون الصين بذلك ثالث دولة، بعد أمريكا والاتحاد السوفياتي، تنجح في الهبوط على سطح المريخ. وكان وصف الرئيس الصيني للمهمة بأنها "تركت بصمات الصين على المريخ لأول مرة"، كافيا للفهم بأن هذه الاستكشافات أداة جيوسياسية ودبلوماسية في التنافس على قيادة العالم.
دول أخرى والحلم الفضائي
لم تكن الصين وحدها المنزعجة من الخطوة الأمريكية، فالقلق راود عديدا من القوى الدولية والإقليمية، كروسيا والهند وفرنسا وكندا.. وما تحرك حلف الناتو الأسبوع الماضي، بإصدار تلك الوثيقة، سوى دليل على حساسية الموضوع لدى الكبار ممن وقفوا على حقيقة المساعي الأمريكية نحو الهيمنة على الفضاء بقوة السلاح.
تعد روسيا - بحكم الإرث السوفياتي - من أكثر الدول اهتماما بعسكرة الفضاء، هذا ما يفهم من تصريح دميتري راجوزين مدير وكالة الفضاء الروسية، في أواخر العام الماضي، حيث قال "إن الولايات المتحدة الأمريكية نقلت معركة سباق التسلح إلى الفضاء، ولا شيء يدعو إلى القلق بالنسبة إلى روسيا". وقررت موسكو اتباع النهج الصيني بإقامة محطة فضائية خاصة، بدل الشراكة مع واشنطن. كما وقعت مذكرة تفاهم مع الصين قصد إنشاء قاعدة على سطح القمر.
أقدمت فرنسا من جهتها على تغيير اسم رئاسة أركان سلاح الجو الفرنسي إلى رئاسة أركان سلاح الجو والفضاء، في مؤشر واضح إلى رغبتها في الانخراط بقوة في مجال الفضاء. وخصصت فرنسا ضمن ميزانية الدفاع ما بين 2019 و2025، ما يقرب من 3,6 مليار يورو للدفاع الفضائي، وذلك بهدف تمويل تجديد الأقمار الاصطناعية للمراقبة والاتصالات وإطلاق ثلاثة أقمار للتنصل الكهرومغناطيسي وتحديث رادار المراقبة الفضائية.
أما الهند المصنفة ضمن قائمة القوى الإقليمية الصاعدة في المجال الفضائي، لامتلاكها برنامجا فضائيا منذ 1972، فقد باشرت بدورها تجارب فضائية، بمعدات محلية الصنع، ونجحت وكالة الفضاء الهندية 2014 في وضع مركبة فضائية في مدار المريخ، لتصبح بذلك رابع برنامج فضائي في العالم ينجح، وأول دولة تصل إلى المريخ من أول محاولة، بميزانية جد محدودة. ويبقى الطابع التعاوني مع باقي الدول سمة غالبة على البرنامج الهندي، فقد أطلق الهنود حتى الآن 342 مركبة فضائية إلى 36 دولة.
يبدو أن نبوءة الخبير جون كولينز، أواخر عقد الثمانينيات، في مؤلفه "القوات العسكرية الفضائية" عند الحديث عن أن "مفتاح السيطرة العسكرية، خلال نصف القرن المقبل، هو فضاء المحيط الأرضي، الذي يعلق الكرة الأرضية بسماكة 80 ألف كليو متر، فمن يسيطر عليه يتحكم في كوكب الأرض، ومن يسيطر على كوكب القمر يتحكم في فضاء المحيط الأرضي"، قد أخدت تتحقق في الوقت الحاضر.
لعل هذا ما يفسر الصراع المحموم للسيطرة على الفضاء، وقد عبر رئيس أركان سلاح الجو والفضاء الفرنسي عن ذلك صراحة، بتأكيده أن "المفتاح هو الكشف والتعرف والرد... القدرة على مراقبة الفضاء هي الدفاع الرئيس لردع الخصوم، لكنها تشكل التحدي الأول، لأن رؤية كل شيء من الأرض غير ممكنة، ولذلك لا بد من تطوير قدرات الرصد".