الجاهزية الرقمية .. عناصر وتكامل
العامان الماضيان وما تخللهما من إغلاقات غير مسبوقة وتعثر، أو حتى انقطاع لكثير من الأعمال أو التنقل الدولي أو سلاسل الإمداد بسبب ما فرضته تداعيات الجائحة، كانا خير دليل على أهمية التقنيات الرقمية. كما شهد العامان الماضيان مرونة واستدامة نسبية لسير الأعمال في كثير من القطاعات في ظل توافر وجاهزية التقنيات الرقمية. فمنظومات الصحة والتعليم واستمرارية الأعمال كان نجاحها مرهونا بمدى جاهزية ونضج البيئة الرقمية التي تنشط فيها. كما أن الدول التي استثمرت وبادرت في تنفيذ مشاريع التحول الرقمي وقطعت شوطا كبيرا فيها قبل الجائحة، استطاعت تخطي أزمة كورونا بأقل الأضرار الممكنة. وأحد الأمثلة التي كانت محل الإشادة المحلية والدولية هي تجربة المملكة الاستثنائية خلال الجائحة، حيث مكنتها جاهزيتها الرقمية - بفضل الله ثم الاستثمار والإعداد المبكر من قبل الحكومة - من تخطي تلك المرحلة الحرجة.
غير أن الجاهزية الرقمية ونضج تقنياتها المصاحبة تتطلب أولا توافر عناصر أساسية، وتكاملا بين تلك العناصر حتى تؤتي تلك التقنيات ثمارها المأمولة. فتوافر بنية تحتية رقمية متينة، تتمثل في انتشار شامل لخدمات النطاق العريض وبسرعات عالية تخدم المستخدمين الأفراد أو الشركات والمؤسسات هو أحد هذه العناصر. ولا يمكن توفير بنية تحتية رقمية دون مبادرات واستثمارات حكومية في مشاريع التحول الرقمي، فغالبا الحكومات هي التي تقود جهود التحول الرقمي إما عبر تحفيزها للقطاع بشكل مباشر، أو سن السياسات الممكنة لمبادرات التحول. ويأتي العنصر البشري ليكمل حلقة التكامل ويقود رحلة التغيير والتحول الرقمي، إما مستخدما أو مطورا ومشغلا. فتأهيل الكوادر البشرية وانتشار الثقافة الرقمية يعد عاملا مهما لنجاح التجربة الرقمية.
من قصص النجاح التي أثبتت فاعلية التحول الرقمي في مرونة واستدامة الأعمال، الابتكارات الرقمية لشركة فليكس بورت flexport الناشئة التي تنشط في أحد مراكز التجارة العالمية، مدينة هونج كونج. حيث ساعدت الجاهزية الرقمية لمدينة هونج كونج على تحول "فليكس بورت" من شركة للشحن البحري إلى شركة للنقل متعددة الخدمات، تشمل التخليص الجمركي، الشحن الجوي والبحري التشاركي، التتبع وتعقب الشحنات وكل ذلك يتم عبر منصتها الرقمية. بل ذهبت الشركة إلى أبعد من ذلك لتقدم خدمات التمويل لعملائها لضمان استمرارية أعمالهم. وفي خضم جائحة كورونا وخلال خمسة أشهر فقط، استطاعت الشركة شحن بضائع تقدر قيمتها بخمسة ملايين دولار أمريكي، مستفيدة من الجاهزية والخدمات الرقمية لأنظمتها.
وأشير في هذا السياق إلى الحدث التقني الضخم، مؤتمر ليب LEAP الذي عقد في مدينة الرياض منتصف هذا الأسبوع، وأعلن فيه المهندس عبدالله بن عامر السواحة وزير الاتصالات وتقنية المعلومات مبادرات تتجاوز قيمتها 6.4 مليار دولار، وموجهة للاستثمار في المجالات التقنية والرقمية في المملكة. تتنوع تلك الإطلاقات بين مبادرات لتعزيز التنافسية الرقمية للمملكة، وأخرى لتطوير البنية التحتية الرقمية كخدمات الربط والاتصال والحوسبة السحابية، أو الاستثمار في ريادة الأعمال الرقمية. وذلك يؤكد سير المملكة بوتيرة متسارعة نحو التحول الرقمي، وزيادة تنافسيتها في هذا المضمار، ليس على الصعيد الإقليمي فحسب، بل على المستوى الدولي، والبناء على المكتسبات المحققة في رحلة التحول الرقمي والتقني للمملكة. وكما أن للمبتكرين ورواد الأعمال دورا حيويا في الدفع بعجلة الاقتصاد المبني على الابتكار عبر المساهمة في إيجاد الشركات التقنية وزيادة التنافسية، شملت المبادرات في مؤتمر ليب إطلاق مبادرة "الكراج"، وهي حاضنة ومسرعة تستهدف رواد الأعمال بتوفير الدعم المناسب لهم، المادي واللوجيستي وتحقيق البيئة المناسبة للابتكار والإبداع. فالاهتمام بالعنصر البشري لا يقل أهمية عن عناصر التكامل الأخرى في مسيرة التحول التقني والرقمي.