«الإرغام» بوصفه أداة من أدوات الحروب السياسية

«الإرغام» بوصفه أداة من أدوات الحروب السياسية
يمكن أن تولد الحروب السياسية حزمة من العواقب التي لم يكن من المقصود تحقيقها.

تنوعت أساليب الحروب وأدواتها عبر التاريخ، لتتلون بألوان عدة وتتشكل حسب حاجة الدول والكيانات الكبرى، فكل مرحلة تاريخية كانت أكثر تعقيدا من حيث الأدوات، وأكثر فتكا بحال الشعوب التي تتعرض لها، في حين كانت تحرص الدول المقتدرة على إدارة الصراعات على الخروج بأقل الخسائر الممكنة، ليكون اللجوء إلى أنواع جديدة من الحروب ضرورة تفرض نفسها على الواقع، سواء كانت هذه الأنواع تقليدية أو غير تقليدية بالمفهوم المشروع المتفق عليه، لكن عقيدة النفوذ والهيمنة والتوسع ملزمة بالتماشي مع النظام العالمي الجديد، الذي اعتمدته الدول مع تأسيس الأمم المتحدة منتصف القرن المنصرم، لتفرض الوقائع ظهور ما يسمى "الحروب السياسية".
اعتمدت العقيدة العسكرية الأمريكية من قبل وزارة الدفاع، مصطلح "الحرب غير النظامية"، والغرض الأساسي من طرح هذه التسمية، التركيز والتأكيد على العناصر غير العسكرية وغير القاتلة لهذا الشكل من أشكال الحروب، في ظل تصاعد النفوذ الصيني المدعوم من المعسكر الشرقي، تحديدا روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي، اللتين لطالما خضعتا لعقوبات أمريكية عسكرية واقتصادية، فيما تفرض واشنطن سطوة على القرار الدولي، من خلال نفوذها الكبير، الذي وطدته خلال أعوام سيطرتها المطلقة على العالم، كما تشاء وأين تشاء، بتسخير القرار العالمي لمصلحة خدمتها، فيما يصف بعض رجالات السياسة الصينية فترة السيطرة الأمريكية على العالم بأنها كانت بمنزلة انحراف تاريخي لكل المجالات، بما فرضته من سلوكيات سياسية متبوعة بنفوذ مالي وقوة عسكرية على مختلف الكيانات في العالم، لكن واشنطن ترى أن ما تقوم به من سياسات مشروع، حيث المصالح أولا.
تتمتع الولايات المتحدة، بعديد من المزايا التي تمكنها من ممارسة الحروب السياسية الإرغامية، فهي تترأس أو تشارك في ترؤس أكبر المنظمات العالمية الأكثر أهمية، بما فيها تلك التي تسيطر على الاقتصاد العالمي، كما تمتلك 30 في المائة من أسهم الاستثمار الأجنبي، وهي بذلك تقع في المرتبة الأولى بفارق كبير عن سواها، كما أن الدولار هو أساس التبادلات في أسواق المصارف والعملات، كما أن أربعة من بين المصارف السبعة الأكبر في العالم بحسب القيمة السوقية هي مصارف أمريكية، حيث تمتلك الشركات السبع الإعلامية الأعلى تصنيفا في العالم، إضافة إلى أن 95 في المائة من عائدات وسائل الإعلام العالمية تخص أمريكا، وتبيع ثلاثة أرباع الأسلحة في العالم، كما تقدم مساعدات عسكرية سنوية تبلغ 18 مليار دولار.
الدولة التي سيكون من الصعب والخطر إرغامها هي الصين، ويصادف أنها تشكل أقوى تحد لخيارات واشنطن العسكرية والتقنية على حد سواء، فهي متماسكة سياسيا، وتلعب دورا أساسيا في السياسة المالية العالمية والتجارة، كما أنها تمتلك أدوات سياسة الحروب الإرغامية الخاصة بها، التي تستخدمها في وجه الغرب وأمريكا، مثل الديون الأمريكية، والتقدم التقني الكبير.
تستخدم واشنطن في الحروب السياسية عناصر القوة الوطنية كافة، وغالبا ما تعتمد الدول في حروبها السياسية على قوات وأدوات غير محددة المصدر أو الجهة، وتكون ساحة المعلومات هي واحدة من أبرز معارك الحروب السياسية، والتفوق فيها يمنح صاحبه قدرة متزايدة على حسم الحرب لمصلحته، كما أن هناك أكثر من تكتيك لإدارة حرب المعلومات، وتراوح بين التضخيم والتشويش، والإقناع في بعض الأحيان، لكن تقديم الأدلة المقنعة في الوقت المناسب هو أفضل "ترياق" للتضليل.
كما تستثمر موارد كبيرة في العمليات الاستخباراتية، ويمكن أن تولد الحروب السياسية حزمة من العواقب، التي لم يكن من المقصود تحقيقها، وغالبا ما تفضل الدول الكبرى استخدام "النفوذ الاقتصادي" باعتباره أحد أهم أسلحتها في الحروب السياسية، فيما تستغل بعض الدول الأزمات العرقية أو الدينية لإحداث انشقاقات حادة داخل الدولة الخصم، وذلك خلال مراحل الحروب السياسية، وغالبا ما تشغل الحروب السياسية مدى زمنيا أطول من الحروب التقليدية، كما يمكن من خلالها أن تلحق بالخصوم آثارا تدميرية، أعمق وبتكلفة أقل.
وتعمل الإدارة الأمريكية على تعزيز العمل المشترك مع الدول الأخرى في مواجهة تحديات الأمن العالمي، حيث عمليات التخطيط والتنسيق المشترك مع الدول الغربية والحليفة، التي تتعرض بالفعل للعدوان أو التخريب أو الإكراه أو محاولات زعزعة الاستقرار، وهو ما يمنح فاعلية أكبر لجهود ردع الحروب السياسية.
لجوء واشنطن وغيرها إلى هذا النوع من الحروب السياسية لرغبتها في عدم اللجوء إلى المواجهة العسكرية، التي تتصف بالكارثية والصعبة، بما تحمله من مخاطر وأضرار كبيرة قد تتسبب في تدمير العالم في حال نشبت المواجهة العسكرية بين واشنطن وبكين، لما تملكانه من أسلحة دمار شامل، وليكون البديل من خلال الوسائل غير العسكرية لإرغام وإضعاف ومعاقبة أولئك الذين يهددون السلم والأمن والمصالح الأمريكية، تتجه واشنطن إلى استثمار بعض المزايا، التي تعطيها حظوة التفوق على أعدائها بشكل لا يورطها في مواجهة مباشرة في مضمار الخيارات غير العسكرية، إذ تتجاوز هذه السياسات حدود القوة الصلبة، لتحقيق الأهداف والغايات الأمريكية.
ومن أهم الوسائل التي تستخدمها الولايات المتحدة لمعاقبة وإضعاف أي دولة تعترض المصالح الأمريكية أو تعارض قراراتها هو أسلوب وسياسة الإرغام، التي تعد في مقدمة السياسات الأمريكية، عوضا من استخدامها سياسة الحروب المسلحة، التي كانت تتبعها سابقا، إذ إن استخدام سياسة الإرغام، يمكنها من الانتصار وتحقيق أهدافها دون أن تطلق رصاصة واحدة، وترفع الحروب السياسية أو الإرغامية من قدرة واشنطن على الحد من النفوذ الصيني، من خلال مزاياها وتكلفتها المتعاظمة، وأبرز هذه العوامل عولمة التجارة، إضافة إلى الاعتماد على الموارد المالية، وتقنية المعلومات، والطاقة، فالعقوبات المالية، ودعم المعارضة السياسية، بمقدورها زعزعة أداء وثقة الصين، إذا تم العمل عليها بحرفية عالية، لتجنب الرد المحتمل، الذي قد يوقع مواجهة عنيفة.
سبق أن اتخذت واشنطن تدابير مماثلة في إدارة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، كانت تتمثل في الجهود الاجتماعية، حيث تم دعم عدد من المؤلفين والفنانين والمجلات، وكذلك تدابير اقتصادية، شملت تقديم مساعدات طويلة الأمد للدول والأحزاب السياسية والنقابات والتنظيمات الأخرى، علاوة على التدابير السرية، التي شملت عمليات التجسس بمختلف المستويات، وتنفيذ عمليات اغتيال لشخصيات مؤثرة بارزة، كما اتبعت أساليب متنوعة ضمن هذه السياسة، في وقف الدعم المالي والعيني المخصص لتلك الدولة، ومحاربتها اقتصاديا بأسلوب الخنق الاقتصادي أي الخنق البطيء، من خلال الإملاءات على تلك الدولة لاتخاذ قرارات بحق شعبها من خلال البنك الدولي وغيره، ومحاصرتها من الجوانب كافة.
يذكر أنه بوسع الولايات المتحدة وحلفائها في الخليج العربي إحباط أي استغلال لموارد الطاقة التي تملكها لأغراض عقابية، وعلى وجه الخصوص إيران والدول شريرة التوجه، لما تشغله واشنطن بتحالفها مع هذه الدول من موقع جيد في أسواق النفط العالمية، ودورها في أسواق النفط والغاز السائل، ما يجعل تهديدات بعض الدول بقطع التوريد أقل فاعلية.

الأكثر قراءة