جراح الذاكرة تذكي إشعال الحرب
تشد أنظار العالم، في المقبل من الأيام، إلى الحدود الروسية الأوكرانية، بعد إصرار روسيا على إرسال التعزيزات العسكرية إلى قواتها المنتشرة على الحدود مع الجارة الغربية، منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، ما يعزز فرضية غزو روسي محتمل لأوكرانيا، بعد مسلسل من الاتصالات متعدد الأطراف، لم تنجح - على ما يبدو - في توفير الحدود الدنيا من الضمانات الأمنية التي طلبتها موسكو من الغرب قصد التهدئة.
بلغ منسوب التوتر على الحدود الروسية - الأوكرانية، مستوى غير مسبوق، منذ نهاية الحرب الباردة. ومثل حجم التحرك الدبلوماسي الذي رافق الأزمة، منذ بداياتها، دليلا قاطعا على وجود رغبة جماعية، في تجنب حرب ساخنة، فلا يمكن لأحد توقع عواقبها على دول الاتحاد الأوروبي، ودول حلف الناتو الشرقية، وعلى موازين القوى بين الدول الكبرى الراغبة في الإنهاء الفعلي لنظام القطبية الأحادية.
اشتداد التصعيد في الأيام الأخيرة، فرض تساؤلا في أوساط المراقبين حول دواعي حرص روسيا على حسم النزاع مع أوكرانيا، ذي الحساسية المفرطة على الصعيد الدولي. على الرغم من نجاحها في تحقيق مكاسب مهمة، وتسجيل اختراقات نوعية في مناطق عدة في الشرق الأوسط "سورية" والأبيض المتوسط "ليبيا" وأعماق إفريقيا "إفريقيا الوسطى، مالي...".
تعد الإجابة عن هذا السؤال، إلى حد بعيد، المفتاح الأساسي لفهم مجريات الصراع بين الجارين، وأرضية صلبة يمكن بناء فرضيات عليها أو حتى سيناريوهات يمكن أن يؤول إليها مستقبل التوتر على الحدود ما بين المعسكر الغربي وروسيا "المعسكر الشرقي" سابقا.
صراع تاريخي
تلقي جراح التاريخ بظلالها على التوتر الروسي الأوكراني، فوصف الدولة المستقلة لم يلازم أوكرانيا على مر التاريخ إلا لماما، إذ بقيت رهينة التجاذب والصراع بين الإمبراطوريات المتعاقبة على المنطقة "بولندا، هنجاريا، النمسا، روسيا...". مع أفضلية لروسيا، فالسردية التاريخية تفيد بأن أوكرانيا موطن شعب الروس الأول، وأن الأمير فلاديمير الأول اعتنق المسيحية على أراضي كييف، في أول دخول للكنيسة الأرثوذكسية إلى بلاد الروس.
وكانت سيطرة روسيا القيصرية على شبه جزيرة القرم 1773، خطوة مهمة نحو البحار الدافئة حينها، قبل أن يقدم نيكيتا خروتشوف، سكرتير الحزب الشيوعي الأوكراني الأصل، أيام الاتحاد السوفياتي، بدون مبرر واضح، على منح شبه الجزيرة لجمهورية أوكرانيا السوفياتية، لتصبح بذلك شريكا رئيسا لروسيا على ساحل البحر الأسود. أخل هذا القرار بموازين القوى، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، حيث فقدت روسيا هذا القطاع الساحلي بموانئه العميقة، والقاعدة البحرية السوفياتية الرئيسة على البحر الأسود لمصلحة أوكرانيا.
وشكل تمدد حلف الناتو خلال الأعوام الـ20 الماضية في جميع دول حلف وارسو والدول السوفياتية السابقة في أوروبا، بما في ذلك رومانيا وبلغاريا وبولندا ودول البلطيق "إستونيا ولاتفيا وليتوانيا" عاملا آخر عمق جراح التاريخ. فالأمن القومي الروسي بات مستباحا من قبل الغرب، فلم يعد يفصل الناتو عن روسيا سوى بيلاروسيا وأوكرانيا. وبالتحاق هذه الأخيرة بالحلف، ستنصب صواريخ الناتو على مسافة لا تزيد على 200 كيلومتر من مدينة سانت بطرسبرج "لينينجراد سابقا" ثاني أكبر مدن البلاد، وعاصمة روسيا القيصرية.
الفضاء الجيوسياسي الروسي
ترى موسكو في أوكرانيا بوابة روسيا إلى الغرب، وتوشك أن تكون في أعين صناع القرار الروس مسافة أمان تفصلها عن الدول الغربية. فالذاكرة الجماعية الروسية لا تزال تحتفظ بوقائع الغزو النابوليوني في القرن الـ19، والغزو النازي في أربعينيات القرن الماضي، وكلاهما كان عبر الممر السهلي الفسيح للأراضي الأوكرانية. هكذا إذن، تعمل روسيا على تجنب تكرار الخطأ نفسه، فتصر على جعل أمن أوكرانيا ضمن أمن فضائها الإقليمي.
يحاجج الروس دفاعا عن موقفهم بوعد أمريكي قديم، قدمه جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي إلى رئيس الاتحاد السوفياتي ميخائيل جورباتشوف، مفاده "عدم توسع الناتو في أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفياتي السابقة". بناء على هذا الوعد، الذي عده الروس ضمانة لهم، سحبت حكومة جورباتشوف معارضتها للوحدة الألمانية. مبدئيا لا تنكر واشنطن كلام بيكر، لكنها في المقابل لا تعتد به، بدعوى أن ما قاله ليس سياسة ملزمة للإدارة الأمريكية.
تنصل واشنطن ردت عليه موسكو من جانبها، بالإخلال بمقتضيات مذكرة بودابست للضمانات الأمنية، الموقعة أواخر 1994، بين الرباعي الأوكراني الروسي الأمريكي البريطاني، التي قدمت فيها روسيا بدورها ضمانات بعدم استخدام القوة ضد أوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان متى قامت هذه الدول بالتخلي عن أسلحتها النووية. قبل أن تخرق بنود الالتزام بضم الجزيرة إلى الاتحاد الروسي 2014، بعد قرار إدارة الرئيس باراك أوباما، نشر منظومة صواريخ مضادة للصواريخ في دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الناتو، وإنشاء مراكز رادار متقدمة في عدد من هذه الدول، بما في ذلك في جنوب شرق تركيا.
تحضر الديموغرافيا بدورها في هذا الصراع لتعزز الفضاء الجيوسياسي، فأوكرانيا - على غرار معظم دول الاتحاد السوفياتي - ذات تركيبة سكانية غير متجانسة. فحجم الأوكرانيين من إثنية روسية يصل إلى 18 في المائة من السكان، بينما المقاطعات الغربية مهد القومية الأوكرانية، يشكل الأوكرانيون الروس أغلبية في شبه جزيرة القرم، وثماني مقاطعات شرقية.
في سيناريوهات الأزمة
أكد وزير الخارجية الروسية عقب لقاء نظيره الأمريكي، أن موسكو لم تعد تثق بوعود الغرب، لذا تطالب برد مكتوب على مطالبها الأمنية. جاء الرد الأمريكي، دون أن يتضمن تعهدا بامتناع الناتو عن ضم أوكرانيا في المستقبل، ما شكل خيبة آمال كبيرة بالنسبة إلى روسيا، ودفعها نحو حشد العدة والعتاد العسكريين على الحدود مع أوكرانيا.
يبدو الرئيس بوتين متحكما في أوراق اللعب جيدا، فإلى جانب لغة القوة والسلاح على أرض الميدان، التي يسعى من خلالها إلى بث رسائل إلى واشنطن وحلفائها قصد ثنيهم على مراجعة موقفهم حيال مشروع ضم أوكرانيا، لم يغلق باب المفاوضات والوساطة، فزار الصين لتأمين جميع أنواع الدعم في حال نشوب حرب، واستقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في وساطة لنزع فتيل الأزمة دون اللجوء إلى السلاح.
تتمثل أولى ثمار نجاح قيصر روسيا في إدارة اللعبة بذكاء، في قدرته على شق المعسكر الغربي، فقد بدا موقف باريس - برلين مختلفا عن موقف واشنطن - لندن، ولا سيما بعد مسارعة بريطانيا إلى مشاركة أمريكا في إرسال أسلحة متطورة إلى كييف، مع إدراك مسبق لعجز أوكرانيا، عن الصمود لبضع ساعات في مواجهة أي غزو روسي متى وقع. في وقت تسارع فيه فرنسا وألمانيا الزمن لإحياء "اتفاق مينسك" الذي وضعته روسيا مع هذا الثنائي بعد ضم جزيرة القرم، وصاغ خطة وقف إطلاق النار مختلف الأطراف.
على الأرض، لن تخرج المغامرة الروسية التي تتم التعبئة والإعداد لها منذ أشهر، عن أحد السيناريوهات الثلاثة:
أولا، قد يدفع انتشار القوة العسكرية الروسية إلى إقناع واشنطن وحلفائها الأوروبيين بأن موسكو جادة وقادرة على غزو أوكرانيا، ما يجعلها تتحرك نحو الاستجابة للمطالب الروسية، ولو في حدها الأدنى على الأقل. بمعنى، أن موسكو التي تطالب بالحفاظ على حياد أوكرانيا، وسحب وجود الحلف العسكري في بلغاريا ورومانيا، يمكن أن تقبل في هذه المرحلة باتفاق على وضع أوكرانيا فقط، وتتغاضى عن بقية المطالب. وهذا أفضل سيناريو يمكن أن يحصده بوتين.
ثانيا، قد توجه روسيا ضربة عسكرية إلى أوكرانيا، مستخدمة هذا المسوغ أو ذاك، بدون القيام بغزو فعلي، بهدف صناعة مناخ من عدم الاستقرار، يفضي إلى تغيير النظام في كييف، ويفتح المجال لمفاوضات روسية - أوكرانية، وروسية - غربية، حول وضع أوكرانيا وعلاقتها المستقبلية بروسيا. احتمال يضم مخاطرة إقدام أوكرانيا على طلب عضوية الناتو، ما يعني ارتداد اللعبة على موسكو.
ثالثا، حفاظ روسيا على التصعيد في المنطقة وديمومة مناخ التوتر لأطول وقت ممكن، باعتماد سياسة الصبر والنفس الطويل، في انتظار تغيير النظام داخل أوكرانيا، لبدء صفحة جديدة مع النظام القادم، في ضوء التفاهمات بين الطرفين. خيار غير مضمون النتائج لرهانه على الزمن بالدرجة الأولى، علاوة على العجز عن توقع ردود فعل المعسكر الغربي.