الابتكار بين تقديم الحلول وإيجاد الفرص «2 من 2»
بعد استعراض أهم ميزات مسار الابتكار المحفز بالطلب وتلبية احتياجات السوق، نتناول في هذا المقال المسار الثاني للابتكار، وهو الابتكار المدفوع بتطورات التقنية أو بتقدم المعارف والعلوم. وقد يبدو للوهلة الأولى أن الطريق الذي يحف هذا النهج من الابتكار يبدو جذابا ومغريا لخوض تجربة الابتكار تلك، والخروج باكتشافات تغير العالم أو تدر الملايين، ولكن الواقع الحقيقي له رأي آخر.
عادة ما يقوم هذا المسار على البحث العلمي والباحثين، ويتركز بين أروقة الجامعات وفي مراكز بحوثها. كما أن نهايات تلك الأبحاث قد لا تبدو واضحة المعالم، ويطرأ عليها تغيير إما في نطاق البحث وإما في منهجية إجرائه في كثير من الأحيان بسبب كثرة المتغيرات التي تعرض على طول تلك المرحلة. ولتقريب الصورة أشير إلى بحث علمي نشر أخيرا في مجلة "نيتشر" الشهيرة، الذي استغرق البحث فيه مدة تتجاوز الـ 30 عاما لتطوير خلايا شمسية لتحويل الطاقة الشمسية إلى كهربائية. ولكن لسوء الحظ لم تفض تلك الأبحاث إلى النتائج المأمولة حتى وقع ما لم يكن في الحسبان، وهو إظهار المواد المستخدمة في تطوير تلك الخلايا قابليتها الفائقة على امتصاص الضوء ممهدة الطريق إلى استخدامات أشمل.
تصور التجربة البحثية سالفة الذكر جزءا من التحديات المصاحبة لعملية البحث العلمي الذي يعد أحد ممكنات الابتكار المدفوع بالتقنية. فطول الفترة الزمنية المستغرقة، والخطورة المصاحبة للمشاريع البحثية الأساسية جراء احتمال الإخفاق وعدم تحقيق النتائج المأمولة، كلها تصف تلك المرحلة. كما أن هذه التجارب تتطلب دعما ماليا يمتد لأعوام، ما يزيد العبء المالي على الجهة أو المؤسسة الداعمة، وبالتالي يثبط الشركات على وجه الخصوص من الاستثمار في البحوث غير مضمونة العوائد على الاستثمار. يضاف إلى ذلك أيضا إنتاج وتسجيل براءات الاختراع التي تعد أحد نتائج هذا النهج الابتكاري، النزر اليسير منها فقط يحول إلى منتجات تجارية تباع في الأسواق.
إلا أن تلك التحديات يجب ألا تثني المؤسسات الحكومية وشركات القطاع الخاص عن الاستثمار في الأبحاث الأساسية وتخصيص جزء من ميزانياتها لتنفيذ تلك المشاريع، وإن كانت المنتجات الابتكارية المرتبطة بتلك المشاريع لا تظهر على المدى القريب على أقل تقدير. أحد الأدلة المقنعة على مساهمة البحث العلمي الأساسي في توليد وتسريع وتيرة الابتكار لما ينتجه من زخم علمي ومعرفي مصاحب، هو ما حصل من سرعة في تطوير لقاح فيروس كورونا الذي عادة يستغرق أعواما للحصول على لقاح ناجع معتمد.
فالجامعات ومراكز الأبحاث الحكومية وفي ظل التعاون الوثيق بينها وبين شركات الأدوية مكن من اكتشاف وتطوير ومن ثم اعتماد لقاح فيروس كورونا في وقت قياسي. غير أن ذلك لم يكن ممكنا لولا وجود عشرات الآلاف من الباحثين والعلماء في التخصصات الصيدلانية والحيوية ذات العلاقة على مستوى العالم، قد أسهموا في نشر عديد من الأبحاث وإجراء كم هائل من الدراسات على مدى عقدين من الزمان أو أكثر في مجالات الأدوية ولقاحات الأوبئة المشابهة.
إن دورة حياة الابتكار تبدأ عادة من المراكز البحثية بإجراء أنشطة الأبحاث الأساسية التي تمهد الطريق في الأغلب لاكتشافات تغير وجه العالم. مجملا، يمكن تشبيه دور الأبحاث الأساسية والأنشطة المرتبطة بها بالوقود الذي يمد المحرك بالطاقة اللازمة لتدوير عجلة الابتكار، لذا من الأهمية بمكان الاستثمار في هذا النوع من الأنشطة الابتكارية المدفوعة بالتقنية والاكتشاف، من القطاع العام أو الخاص على حد سواء. كما تشير الإحصائيات الحديثة إلى زيادة إنفاق شركات القطاع الخاص في الولايات المتحدة على مشاريع الأبحاث الأساسية إيمانا منها بأهمية تلك الأنشطة في دفع عجلة الابتكار، وفي الحفاظ على ميزتها التنافسية.