درس أوكرانيا .. لا تضع كل مصالحك في سلة واحدة
وضعت الحرب أوزارها في أوكرانيا، بهجوم روسي شامل برا وبحرا وجوا، وتبخرت الوعود الغربية الأمريكية بالوقوف إلى جانب أوكرانيا، لتكون مشاعا أمام القوات الروسية، التي دخلتها من جميع الجبهات، لتكون مسألة سقوط العاصمة الأوكرانية كييف مسألة وقت، يتم حينها تنصيب حكومة موالية لموسكو وإسقاط الحكومة الحالية، التي يقودها الرئيس فولديمير زيلينسكي، الذي يخوض أول ملحمة حقيقية بعد مجيئه من عالم المسارح الفنية إلى مسارح الحروب الدموية، فالمشاهد والمعارك الحربية لا تنتهي بتصفيق الجمهور، إنما تنتهي إما بالنصر أو الهزيمة، لكن فرص النصر أمام القوة العسكرية الثانية عالميا مرجحة، خصوصا أن من يقودها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي تعلم السياسة في دهاليز المخابرات الروسية.
الأحداث المتسارعة في أوكرانيا تشير إلى نصر روسي حتمي ليس على الأرض فحسب بل على عدة أصعدة، فالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب وصف الغزو الروسي بأنه خطوة ذكية من الرئيس بوتين، وأن بلاده وأوروبا لن تثنيا بوتين عما يفعله بعقوبات كلفته دولارين، في الوقت الذي تعيش فيه موسكو حالة مزمنة مع العقوبات الغربية منذ أعوام طوال، لم تثنها عن السعي للحفاظ على أمنها القومي بالتوسع استباقيا في أراض، كان من المتوقع أن تكون قواعد لمنصات أمريكية تهدد أمنها وأمانها بعد الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ليكون الرهان على أمريكا وحلفائها الغربيين خاسرا، بعد تأكيد الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه لن يرسل أي قوات عسكرية إلى أوكرانيا.
ترى روسيا في كييف بعدا استراتيجيا وأمنيا، فهي العاصمة الأولى للإمبراطورية الروسية، التي تعدها نقطة انطلاقة تعيد منها إحياء أمجاد الاتحاد السوفياتي، الذي تفكك بدايات العقد الأخير من القرن الماضي، لتكون الأحلام الروسية محتملة التحقيق بالعودة إلى منازعة الغرب على تسيد العالم. فما جرى أخيرا على صعيد العلاقات الأمريكية الأوروبية كان مبررا للروس لاستغلال هذه الثغرات، التي بدأت بفرض واشنطن ضرائب على دول أوروبية في عهد ترمب، وإلزامها بزيادة الإنفاق لمصلحة حلف الناتو، فيما زادت إدارة بايدن من الشرخ بينها وبين أوروبا عندما سحبت عقودا بصنع غواصات لمصلحة أستراليا من فرنسا، إضافة إلى عقود صنع طائرات من طراز الرافال من فرنسا، فيما كان انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ضربة في مقتل للأوروبيين، لتكون المؤشرات والدلائل حجة قوية وفرصة كبيرة للروس بالعودة إلى الساحة وفرض نفوذهم بشروط دون استجداء الفضل.
تشير التصريحات الأخيرة من قبل الجانب الأوكراني إلى خيبة أمل وندم، باعتمادهم على أمريكا والغرب، خصوصا أنهم تخلوا عن ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم 1994، ورثوها عن الاتحاد السوفياتي المنهار، مقابل ضمانات أمريكية أوروبية بحمايتهم، ليقاتلوا اليوم وحيدين أكبر قوة صاروخية في العالم، فيما يكتفي أصحاب الوعود بتجديدها، لكن دون الوقوف إلى جانب كييف، إنما بمحاسبة موسكو، التي تفرض شروطها على المجتمع الدولي، خصوصا أنها تسيطر اليوم على أهم مصادر القمح والغاز في العالم، في حين يكتفي "الناتو" بإرسال طائرات من طراز إف – 35 الشبح إلى بولندا ودول موالية في منطقة بحر البلطيق، - بحسب مراقبين - يخشى قادة مشروع الطائرة الأمريكية الشبحية الأكثر تطورا من حصول خطأ فني يسقطها كما حصل أخيرا قبالة السواحل المصرية، بينما تهبط هذه الطائرات تأكل النيران الأخضر واليابس في المناطق التي تدخلها القوات الروسية.
التجربة الأوكرانية المريرة بمنزلة درس لكل الدول وعلى رأسها دول الشرق الأوسط، التي لن تضع مصالحها في سلة واحدة بعد اليوم، فاللجوء إلى التحالفات المتوازنة ضرورة تفرضها متطلبات العالم الجديد، بعد انتهاء السطوة الأمريكية على العالم وعودة الدب الروسي إلى الساحة بقوة، مدعوما بصعود صيني غير مسبوق في مختلف المجالات، هذا التدخل العسكري من الصراعات القليلة، التي لا تكون فيها منطقة الشرق الأوسط مسرحا للأحداث منذ نحو نصف قرن، لكن تبعاته ستكون بلا شك مرتبطة بالمنطقة، فحتمية أن هذه الحرب ستصب في المنطقة مقضية، إذ تشهد العلاقة بين موسكو وتل أبيب خلافا واضحا، بعد أن فضل الإسرائيليون الوقوف إلى جانب كييف على حساب الروس الموجودين أصلا على مسافة صفر من الحدود مع تل أبيب، خصوصا أن الطائرات الروسية تحت رحمة أنظمة الدفاع الجوي الروسي في القواعد العسكرية الروسية الموجودة في سورية، تحديدا قاعدة حميميم.
سقوط أوكرانيا يعني بلا شك أن النظام العالمي الحديث، الذي صنعه المنتصرون في الحرب العالمية الثانية بدأ في الانهيار، وبدأ عصر آخر في حال تطورت الأحداث نحو الأسوأ. فالدول غير القوية عسكريا ستتذوق مرارة سطوة وسيطرة الكبار، فالصين تنتظر ساعة الصفر لتقتدي بروسيا لدخول تايوان واستعادتها إلى أحضانها، بعد ما وصفته بكين باختطافها من قبل الغرب، كما تتسع دائرة التوسع الصينية المخطط لها لاستعادة هونج كونج، في الوقت الذي تبقى فيه المخططات الروسية مجهولة، هنالك توقعات بأن تواصل روسيا الغزو لتصل إلى حدود دول أخرى كانت سابقا ضمن دول الاتحاد السوفياتي كمولدوفيا وغيرها من الدول، التي تعدها في عمق أمنها القومي.
أخلاقيا، لا ترى موسكو أي حرج فيما تقوم به من تدخل عسكري في أوكرانيا، فهو مبرر لها، بسبب أمنها القومي، وفي رأيها أيضا أنه لا يحق لأي من واشنطن ولندن لومها فيما تقوم به، إذ سبقتاها إلى التدخل في أفغانستان بحجة محاربة الإرهاب 2003، وجرى لاحقا قبل عدة أشهر الانسحاب منها وسلمتاها إلى جماعة "طالبان" العدو، الذي قدمتا من أجله قبل نحو عقدين من الزمن، كما أنهما قامتا بالتدخل في العراق بحجة نزع أسلحة الدمار الشامل من نظام صدام حسين بعد إسقاطه، ليتم تسليمه فيما بعد للنفوذ الإيراني، الذي أعاد البلاد إلى عصور ما قبل التاريخ، بسبب عمليات الانتقام، التي نفذتها المخابرات الإيرانية بحق العراق وأهله.