القمة الإفريقية - الأوروبية .. لا مستقبل لشراكة بأعين الماضي
انعقدت أخيرا، بعد تأجيل لمدة عامين، القمة الإفريقية - الأوروبية في العاصمة بروكسل، تحت شعار "إفريقيا وأوروبا.. قارتان برؤية مشتركة حتى 2030"، الذي قدمه الاتحاد الإفريقي، عوض مقترح الأوروبيين "تحالف إفريقيا - أوروبا"، معتبرا الفتور الذي شاب العلاقة بين القارتين، قطعا لا يسمح بالحديث عن التحالف. فهذا المصطلح ثقيل جدا من الناحية الجيوسياسية، ما جعل ممثلي القارة السمراء يدفعون باتجاه الدعوة إلى تجديد الشراكة بدل التحالف.
دامت أشغال القمة يومين كاملين، 17 و18 شباط (فبراير) الجاري، وانتهت كما بدأت، دون أن تترك وقعا أو صدى يرفع من مستواها لتصبح في قائمة القمم التي تملأ الدنيا وتشغل الناس، خصوصا أنها تجمع بين طرفين، إفريقيا وأوروبا، بينهما من عبق التاريخ ومعضلات الجغرافيا ومشكلات الهجرة وكوراث الاستنزاف ومأزق الجيوبولتيك... الشيء الكثير. كانت تلك الأجواء متوقعة بالنظر إلى الجفاء الكبير الذي تشهده العلاقات بين الدول الإفريقية والأوروبية، علاوة على تولي فرنسا، التي تعرف علاقتها توترا حادا مع بعض دول الساحل الإفريقي، الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي.
على هذا الأساس، طالب الأفارقة لحظة إعداد مسودة البرنامج بتجديد الشراكة مع نظرائهم الأوروبيين، سعيا نحو إرساء أسس تعاون حقيقي متين، بدل الاكتفاء بالشعارات والعبارات المسكوكة القابلة للتداول والاستهلاك الإعلامي. فقد خبروا في أكثر من محطة مدى زيف تلك الشعارات، كان آخرها إبان مواجهة جائحة كورونا، وحتى بعد اكتشاف التلقيح، فحتى لحظة انعقاد القمة لم يتلق اللقاح الكامل في إفريقيا سوى 12 في المائة من السكان، مقارنة بنحو 71 في المائة في الاتحاد الأوروبي.
رأى الأوروبيون من جانبهم، في مطلب "الشراكة الحقيقية" فرصة لإعادة ترتيب الأوراق، والتفكير في استراتيجية جديدة، تصلح لإعادة قليل من المجد التليد إلى دول الاتحاد الأوروبي "المستعمِر" داخل دول القارة السمراء "المستعمرات". يذكر أن ظهور لاعبين جدد في الساحة الإفريقية، يشتغلون بقواعد ومنطق مغاير، أزاح دول الاتحاد الأوروبي عن تصدر قائمة الشركاء الاستراتيجيين، في عديد من دول القارة الإفريقية.
يبدو أن زعماء القارة العجوز مدركون جيدا حجم الشرخ في علاقتهم بالقارة الإفريقية، فقد سبق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن تعهد أواخر العام الماضي يوم 9 ديسمبر الماضي، بإدخال "إصلاح شامل" على العلاقة بين الاتحادين الأوروبي والإفريقي، خلال القمة السادسة لرؤساء حكومات دول الاتحادين في بروكسل شباط (فبراير). وألمح إلى احتمال "إعادة صياغة صفقة اقتصادية ومالية جديدة مع إفريقيا"، وذلك قصد "إنشاء نظام حقيقي للسلام والازدهار لبناء الاستثمارات في الاقتصادات الإفريقية وبناء مستقبل مشترك".
يعزز هذا التوجه انقضاء عقد ونصف على استراتيجية الاتحاد الأوروبي لـ2005، التي مثلت خريطة طريق لسياسته تجاه إفريقيا، ما يفرض رؤية جديدة "نحو استراتيجية شاملة مع إفريقيا"، تأخذ في الحسبان جميع المتغيرات. جاءت الشراكة الجديدة، على أساس المساواة، لتغطي عدة مجالات، تراوح بين التحول الأخضر والتحول الرقمي والنمو المستدام والوظائف والسلام والحكم والهجرة والتنقل.
تقرأ هذه الشراكة كذلك باعتبارها صورة من صور الحرب الباردة المحتدمة بين القوى الكبرى في القارة الإفريقية. فقد كشفت المفوضية الأوروبية عن خطة مناهضة لمبادرة الحزام والطريق الصيني، من خلال استثمار 300 مليار يورو عالميا بحلول 2027، منها أكثر من 150 مليارا مخصصة لإفريقيا. ولا بد للاتحاد الأوروبي من سبيل للدفاع عن مصالحه في إفريقيا، لذا أعلن مطلع شباط (فبراير) خطة "بوابة الاتحاد الأوروبي العالمية"، التي ضمت مليارات الدولارات كاستثمارات في البنية التحتية في دول إفريقيا.
لا ينتظر خبراء القارة السمراء كثيرا من وراء هذه الاستراتيجية الجديدة التي أعلن عنها الأوروبيون في القمة، فهي من ناحية بلا حوافز أساسية، وتغيب الجهات المحلية في الفعل، كما أنها في النهاية أرقام على ورق، لافتقادها كثيرا من التفاصيل، وكذلك خطة واقعية قابلة للإجراء والتنفيذ على أرض الواقع، مثلما فعلت الصين بتمويل آلاف المشاريع، ضمن سقف زمني محدد. ومن ناحية أخرى تبقى مسألة اقتران الشراكة والتعاون في أعين الأوروبيين بضرورة احترام الدول الشريكة لمبادئ وقيم الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان، حجر عثرة يدفع كثيرا من الدول الإفريقية نحو شركاء آخرين "الصين، روسيا، اليابان..."، يتغاضون عن هذا الأمر نظير تحصيل المصالح ونيل المكاسب والامتيازات.
ما سبق يجعل الاتحاد الأوروبي بين مطرقة الالتزام بمبادئه وسندان البحث عن مصالحه، فاهتمام الأوروبيين بإفريقيا ليس حبا في سواد أعين الأفارقة، بل بحثا عن تنمية اقتصادية ومجتمعية أفضل، سعيا إلى تحقيق الاستقرار في القارة التي اهتزت أخيرا على وقع عديد من الانقلابات. فتحصيل هذه الأهداف كفيل بالتخفيف من موجات الهجرة غير النظامية، وتجفيف جذور ومنابع التطرف في إفريقيا، تمهيدا لطرح ملف إعادة المهاجرين غير الشرعيين داخل دول الاتحاد الأوروبي إلى دولهم الأصلية.
يبقى تحقيق ذلك رهينا بأمرين أساسيين، أحدهما تحدث إفريقيا بصوت واحد، رغم خلافات دولها، متى تعلق الأمر بمصلحة القارة السمراء، وهذا غير قائم، فجل دول القارة يتبع النهج الثنائي في التعاطي مع القوى الكبرى، ما يضعف مكانة القارة في القمم الثنائية والمحافل المتعددة الأطراف. والآخر، إعلان دول القارة القطيعة مع عقلية "الدول الاستعمارية"، والنظر إلى الشراكة بأعين اليوم، وفق قاعدة رابح/ رابح، للمضي قدما نحو مستقبل أفضل للجميع، لا البقاء أسير صفحات تاريخ دموي، تعمق استعادته من جروح الذاكرة الجماعية للأفارقة.