التضامن ضد روسيا يعيد الروح إلى المعسكر الغربي
يستمر التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وتستمر معه الاحتمالات والسيناريوهات حيال مجريات الأحداث على أرض الواقع، وإن صار هامش التقدير والتوقع صعبا، بحسب كثير من المراقبين، ولا سيما بعد تهاوي جل الفرضيات المتداولة بين الخبراء العسكريين والاستراتيجيين، قبيل وحتى خلال الأيام الأولى للعملية العسكرية، بشأن النهاية الممكنة أو المتوقعة للمواجهة بين الطرفين، قياسا على عمليات سابقة "جورجيا، وجزيرة القرم..."، وفي ضوء استقراء لحظي سياقي للواقع.
فقد ساعد توسع نطاق المواجهة العسكرية، واستمرارها في الزمن للأسبوع الثاني على التوالي، على تغيير كثير من المعطيات المرتبطة بالصراع على أكثر من جبهة، فعنصر الزمن مثلا، مكن المعسكر الغربي عامة، ودول الاتحاد الأوروبي بوجه خاص، من تجاوز التردد الذي رافق التدخل العسكري في الأيام الأولى، نحو وحدة المواقف والقرارات تجاه الهجوم الروسي على أوكرانيا. فسرعان ما تماسك الأوروبيون، بإقرارهم فرض عقوبات اقتصادية، ومنع روسيا من الوصول إلى الأسواق العالمية، وإغلاق المجال الجوي الأوروبي أمام الطيران الروسي... وهكذا تواصل مسلسل حصار روسيا على الجبهات كافة "الاقتصادية والسياسية والرياضية والثقافية...".
تتجه الأزمة الأوكرانية إلى إنتاج مفعول عكسي، لما خططت له موسكو. فالأيام الأخيرة كشفت تطورا كبيرا في العلاقات الأطلسية والأوروبية، ورفعت مستوى الانسجام والتوافق بين الحلفاء في محور واشنطن لندن برلين باريس. في وقت كانت روسيا تراهن فيه على إظهار انقسام المعسكر الغربي، وتشجيع دول أخرى على شق عصا الطاعة الأمريكية، والالتحاق بالمعسكر الروسي - الصيني، المدافع الشرس على مصالح حلفائه بعيدا عن اشتراطات "الديمقراطية، وحقوق الإنسان..."، يحدث أن تنقلب ابتزازا في بعض الأحيان، للمحور المضاد.
أدركت أوروبا في أعقاب الهجوم على أوكرانيا حجم الخطر الروسي، واكتشفت أن لغة الدبلوماسية وخيار جذب موسكو إلى خاصرتها الغربية، من بوابة الحوار والوصول إلى أرضية مشتركة للتفاهم، كانا من ضمن مقترحات كثيرة وأهواء يميل إليها بعض زعماء أوروبا، ولا سيما في ألمانيا وفرنسا، ممن فتحوا خط تواصل عريضا مع الكرملين، ما دفع الأوروبيين إلى الاقتناع بأن رياح الحرب القادمة من الشرق ستتعدى أوكرانيا إلى الدول المحيطة بها.
ما بعد التدخل الروسي في أوكرانيا قطعا لن يكون كما كان قبل في ذاكرة الأوروبيين، ممن يعيشون أكبر صراع عسكري، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى قيل إن عملية صناعة السلام التي رافقت حقبة الحرب الباردة صارت جزءا من التاريخ. ما دفع حكومات القارة العجوز إلى العدول عن سياسة التقشف العسكري، لمصلحة خيار العودة إلى التسلح، وزيادة الإنفاق العسكري، من باب التحسب لما قد تحمله العملية العسكرية في أوكرانيا من أخطار على الأمن القومي الأوروبي.
هكذا، ارتفعت الأصوات داخل أوروبا من أطياف مختلفة، اليمين واليسار والوسط على حد سواء، للمطالبة بمراجعة سريعة لسياسة التسلح، وتعزيز القدرات العسكرية للدول الأوروبية، حتى لا تكون في موقع المتأخر عسكريا. وطالبت بتحويل تعهدات 2014 عن زيادة الإنفاق العسكري لبلوغ 2 في المائة، إلى حقيقة متعينة على أرض الواقع. وجاء توافق دول حلف شمال الأطلسي على هذا الهدف، بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم، ما دفع الأوروبيين حينها إلى مناقشة تقييم المخاطر والاستراتيجيات العسكرية، دون أن تتلوها خطوات لمراجعة سياسة الإنفاق. عكس ما يجري حاليا، بعدما أكد مسار الأحداث أن القارة الأوروبية تعيش على وقع صياغة جديدة للتحديات الجيوسياسية.
فقد سارعت ألمانيا، المحسوبة دوما على قائمة المتحفظين على موضوع التسليح، إلى التعبير عن استعدادها لتأدية دور أكبر في قيادة الاتحاد الأوروبي، لمواجهة ما تعده الدول الأعضاء تهديدا لأمنها الجماعي. فكانت برلين أولى العواصم التي أعلنت، على لسان المستشار أولاف شولتز المحسوب على الحزب الديمقراطي الاجتماعي، عزمها زيادة الإنفاق العسكري، في جلسة خاصة للبرلمان، ليبلغ 2 في المائة من الناتج المحلي في أوروبا، على أن يبدأ ذلك فورا بضخ 113 مليار دولار لتحديث القوات المسلحة.
إيطاليا بدورها لم تتأخر طويلا في الدخول على الخط، إذ أعلن ماريو دراجي رئيس الوزراء، في كلمة في مجلس الشيوخ، ضرورة استثمار روما، ومعها دول الاتحاد الأوروبي، أكثر في الدفاع، ما يعني زيادة ميزانية الإنفاق التي ظلت، طيلة أعوام، في حدود 1.3 في المائة. وحث الزعيم الإيطالي دول الاتحاد على الإسراع في إنشاء القوة الأوروبية المشتركة، حتى تكون مكملة للناتو، فالهجوم الروسي على أوكرانيا، بحسب الرجل، يشكل نقطة مفصلية في تاريخ أوروبا.
حتى السويد البعيدة جغرافيا عن دائرة النزاع، لم تخف رغبتها في زيادة قدراتها العسكرية، بعد التدخل الروسي في أوكرانيا. فقد صرحت ماجدالينا أندرسون رئيسة الوزراء بأن الحكومة مطالبة بتعزيز القدرات الدفاعية، مع المضي قدما في سياسة إعادة التسلح، مؤكدة أنها ستعمل على إطلاق محادثات للحصول على تمويل إضافي، فمستوى الخطر العام قد ارتفع. يذكر أن هذه الدولة، غير المنتمية إلى حلف الناتو، أعادت العمل بالخدمة العسكرية الإجبارية، منذ 2017، وأقرت خطة للرفع من ميزانية الدفاع 40 في المائة، على مدار خمسة أعوام، ما يشكل أعلى زيادة في ميزانية الدفاع، منذ 70 عاما.
دفع الواقع الحربي الذي فرضته روسيا في القارة الأوروبية، بعديد من الدول نحو مراجعة سياسة التسلح، ما يهدد بانهيار اتفاقيات دولية للحد من سباق التسلح في العالم. وفي الوقت ذاته أكدت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا نبوءة الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك بعد قيام فرنسا بآخر تجربة نووية مطلع 1996، مؤكدا أن الاتحاد السوفياتي انتهى، "لكن سلاحه النووي لا يزال موجودا، ولا ضمانات بألا يدخل الكرملين رئيس روسي يلوح باستعماله".
بهذا يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قدم خدمة استثنائية للاتحاد الأوروبي، ومن ورائه المعسكر الغربي، بإعادة إحياء مشاريع التعاون والتضامن وروح التخطيط والتنسيق في معسكر يوشك على التفكك، بسبب رياح الشعبوية التي تحاصره من كل جانب. غير هذه النتيجة يبقى المستقبل مفتوحا على كل الاحتمالات من كلا الجانبين الروسي والأوكراني.