النظام الدولي .. تعدد الأقطاب واشتداد الاستقطاب

النظام الدولي .. تعدد الأقطاب واشتداد الاستقطاب
سيرجي كيسليتسيا سفير أوكرانيا لدى الأمم المتحدة "نيويورك 2 مارس 2022".

أخذت الحرب الروسية الأوكرانية أبعادا أخرى أكثر مما كان متوقعا لها قبل تدخل القوات الروسية في الأراضي الأوكرانية، إذ بدأت تظهر ملامح مرحلة انتقالية نحو نظام دولي جديد، يفرض نفسه بقوة، منتزعا من واشنطن سيادة القطب الواحد للعالم، لتجبرها الأوضاع الراكدة، رغم ما فيها من غليان، على التعاطي مع المستجدات الأخيرة المتعلقة بالحرب. فمن وجهة نظر الجغرافيا السياسية "الجيوبوليتيك"، إن الولايات المتحدة الأمريكية تولي الصراع مع روسيا الأهمية القصوى، وفي هذا السياق فإنها قد تكون مستعدة لتقديم تنازلات تكتيكية للصين لضمان عدم خروج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منتصرا، فيما تقول نظرية الهيمنة، إن "أمريكا ستحتفظ بأقصى قدر من اليقظة والأولوية للمواجهة مع الصين".
وفي سبيل ذلك، قد تغض أمريكا الطرف عن بعض المكاسب الاستراتيجية لروسيا مؤقتا على الأقل، وفي حدود الخطوط الحمراء لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، فيما وردت أنباء من بكين تفيد برفض شركات تصنيع الطائرات الصينية بيع موسكو قطعا للطائرات.
يعد تعاطي الإدارة الأمريكية مع الأزمة الروسية الأوكرانية مخيبا للآمال لحلفاء واشنطن في أوروبا ومناطق أخرى، إذ يبين بوضوح أن جزءا كبيرا من التزام واشنطن بالدفاع عن حلفائها، ومع ارتفاع وتيرة التهديد الروسي، والكوري الشمالي، والإيراني، على الكتل الاقتصادية العالمية الكبرى في أوروبا، وشرق آسيا، والخليج العربي تباعا، سيقلص فرص الكتل الاقتصادية في موازنة مصالحها بين أمريكا والصين، وستدفعها الضرورة إلى الميل نحو حليف موثوق يمكن الاحتماء به وقت الشدائد، خصوصا في ظل اشتداد حالة الاستقطاب في النظام الدولي.
لم يعتد العالم على وقوع حرب طاحنة في أوروبا على غرار ما حدث ويحدث في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بسبب التدخلات الخارجية عسكرية كانت أو سياسية، فالمعارك الدائرة على الأراضي الأوكرانية تهز كل بيت أوروبي بسبب أزمة الطاقة، كما أنها معرضة لأن تكون مسرح عمليات حرب مدمرة، لكن اقتصاديا أوروبا تعاني خشية انقطاع الطاقة الروسية، في حال تطبيق العقوبات بحظر النفط والغاز الروسي، وهذا من شأنه أن يزيد من ارتفاع الأسعار حتى بالنسبة إلى المستهلكين الأوروبيين الذين يعانون أزمة حادة في تكلفة المعيشة.
كما يخشى الغرب من العواقب الاقتصادية الوخيمة إذا امتدت العقوبات الدولية على روسيا إلى قطاع النفط والغاز، وما لم يكن هناك ضمان من دول النفط لسد العجز الذي قد ينجم عن تلك العقوبات، إذ يتوقع أن تتسبب العقوبات في قطع 7 في المائة من إمدادات النفط العالمية، وفي ظل هذه الخلفية، يبدو أن استبدال الغاز الروسي بغاز الشرق الأوسط يمثل حلا جذابا، لكن قد يصعب التعويل عليه. يذكر أن الدول المصنفة كحليف رئيس للولايات المتحدة خارج "الناتو" تستفيد من الاحتفاظ بالمخزون الاحتياطي الحربي الأمريكي، إضافة إلى السماح لشركات خاصة من هذه الدول للتنافس على عقود لصيانة وتصليح وترميم المعدات العسكرية الأمريكية، ويمكن لهذه الدول توقيع اتفاقيات مع أمريكا لإجراء تدريبات مشتركة، لكن هذا التصنيف لا يلزم واشنطن بالدفاع عن الحليف الرئيس من خارج "الناتو".
تدرس الإدارة الأمريكية إمكانية تخفيف العقوبات عن فنزويلا حتى تتمكن البلاد من البدء في إنتاج مزيد من النفط وبيعه في السوق الدولية، هذه الخطوة تهدف إلى تقليل الاعتماد العالمي على النفط الروسي، وعزل روسيا عن أحد حلفائها الرئيسين في أمريكا الجنوبية، حيث ترقد فنزويلا فوق أكبر خزان نفطي في العالم، وتعد أحد النماذج البارزة للدولة الفاشلة عالميا، ويعاني شعبها الأمرين بسبب قياداتها السياسية.
بدوره، وجه ماركو روبيو السيناتور الجمهوري انتقاده إلى الرئيس بايدن بسبب المناقشات عن النفط الفنزويلي وتخفيف العقوبات، منتقدا استبدال النفط الروسي بالفنزويلي، بينما القيادتان تتبعان النهج السياسي نفسه غير المقبول لدى البيت الأبيض، فيما تعد واشنطن هذه التحركات "خطوة" في مواجهة النفوذ الصيني، وإرساء استقرار في أسعار النفط من أجل الحد من النفوذ الروسي، وإثبات أن المقاطعة قادرة على تحقيق النتائج المرجوة. وتلجأ واشنطن إلى مثل هذه الخيارات بعد أن تبنت دول الخليج العربي موقفا محايدا بين الغرب وروسيا، إذ يعد صناع القرار الخليجي الروس شركاء أساسيين في تحالف "أوبك +".
كما تحاول إدارة بايدن التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران لإزالة العقوبات وضخ مزيد من النفط في الأسواق للتخفيف من أعباء الحرب الروسية الأوكرانية على أسعار المحروقات، فيما يتكيف قادة الشرق الأوسط مع الحقبة الجيوسياسية الجديدة، التي أطلقتها أكبر حرب في أوروبا منذ 1945، وبالتزامن مع المعارك في محيط العاصمة الأوكرانية تترقب دول منطقة الشرق الأوسط بما فيها إسرائيل نتائج مفاوضات الملف النووي في فيينا.
وستفتح أي صيغة لأي اتفاق نووي غربي إيراني بمشاركة واشنطن الباب على نزاعات أوسع في المنطقة، وتزيد من رقعة الحروب والصراعات في العالم، بسبب سياسات النظام الإيراني التوسعية في المنطقة، التي تعاني احتقانا شديدا بسبب حساسية الدور الإيراني في الدول العربية من جهة، وصراع النفوذ والهيمنة الإسرائيلية الإيرانية من جهة أخرى، إذ يعد التوصل إلى اتفاق نووي لاحتواء خيارات إيران النووية في حد ذاته هدفا يستحق العناء، لكنه إذا طبق بمعزل عن القضايا الأخرى، فقد يتسبب في زعزعة إضافية لاستقرار المنطقة، والسبب هو أن ما سينتج عن الاتفاق من تخفيف للعقوبات سيؤدي على الأرجح إلى تمويل إضافي للميليشيات الموالية لإيران في مختلف أنحاء المنطقة، ما سيفضي مع الوقت إلى فشل مؤسسات الدولة في بعض الدول، وإلى تقويض الحركة التجارية، وأي أمل في خفض التوترات في أماكن أخرى.
فالحرب على أوكرانيا سيكون لها ما بعدها على صعيد منظومة العلاقات الدولية من انقسامات جيوسياسية تتجاوز تصنيفات الحرب الباردة والمعسكرين الاشتراكي والرأسمالي أو كتلة عدم الانحياز، انقسام يأخذ في الحسبان المصالح الاقتصادية، والأبعاد الثقافية والتاريخية للأمم، ولن يكون محصورا في السياقات السياسية أو الأيديولوجية، كما سيلتقط الفكر السياسي مقطع انصياع الشركات الكبرى الأمريكية لمقاطعة روسيا واتخاذها موقفا منحازا تجاه طرف ضد الآخر، بما يسمى استقلالية اقتصاد السوق الحرة عن القرار السياسي، وتبعيته للدولة العميقة، فلا يمكن النظر إليه بعد اليوم سوى أنه أداة للهيمنة والنفوذ والاستعمار الجديد ومكمل للمنظومة الحربية.
بكين، إحدى أهم القوى العالمية الصاعدة، والمتسببة لواشنطن في القلق، التي تتميز بعلاقات صداقة وطيدة مع موسكو في اختبار صداقة حقيقي مع روسيا. فعلى الرغم من التقارب غير المسبوق بين الدولتين، تسعى بكين جاهدة لتجنب تضررها من الشراكة مع موسكو، وفي الوقت نفسه، للحفاظ على العلاقات الوثيقة بينهما، لكن الصين تعد الحرب الروسية الأوكرانية تمنحها فرصة للراحة مؤقتا من مزيد من العقوبات الأمريكية الغربية، كما تخشى بكين على رعاياها في أوكرانيا، كما أنها ستتعرض لموقف محرج محليا في حال سقوط أحد رعاياها هناك جراء قصف أو هجوم روسي، ما سيغير موقفها الراجح لكفة موسكو في العلن، والمرضي لواشنطن من تحت الطاولة، خصوصا بعد مكالمة هاتفية بين وزير الخارجية الصيني لنظيره الأوكراني، "إن بكين تأسف للصراع، وتأمل أن يتمكن الجانبان من التوصل إلى حل دبلوماسي".

الأكثر قراءة