روسيا وأوكرانيا .. حرب موازية بلا سلاح

روسيا وأوكرانيا .. حرب موازية بلا سلاح
باع روسيا الطويلة في هذا النوع من الحروب لم تمنع الأوكرانيين من الانخراط فيها.

يتابع العالم بأسره تطورات الأحداث أولا بأول، في أرض المعارك بين روسيا وأكرانيا، منذ بداية التدخل الروسي، بتاريخ 24 شباط (فبراير) الماضي. رافقت هذه المواجهة المسلحة بين الطرفين، حروب من طينة خاصة، تتعدى حدود الجغرافيا والديموغرافيا، وذات تأثير نوعي، بالنظر إلى انعكاسها المباشر أو غير المباشر، على مجريات على مسار المعارك في جبهات القتال.
وزاد دخول عمالقة التواصل الاجتماعي "فيسبوك، توتير، إنستجرام، تلجرام..." في العالم على الخط، بالتخفيف من قيود الاستخدام، وإقرارها تعديلات استثنائية، على الشروط والقواعد التي تؤطر المواد المنشورة على المنصات والشبكات الاجتماعية، زاد من مركزية الحرب الإعلامية التي تدور رحاها، بشكل متواز، مع المواجهة العسكرية على الأرض، منذ أسابيع، بين الدولتين.
تظهر أوكرانيا متقدمة على روسيا في الحرب الإعلامية، فكفة الصراع على جبهة الأونلاين "التواصل المباشر" تميل مع استمرار المواجهة إلى مصلحة الأوكرانيين، لاشتغالهم على هذه الواجهة منذ بداية العملية العسكرية، سعيا من وراء ذلك إلى كسب التعاطف الدولي، والتعريف بقضيتهم العادلة لدى الرأي العام الدولي. فالرواية الأوكرانية تفيد بأن "أراضيهم تتعرض لتدخل عسكري من قوة مجاورة، واستقلالهم يتعرض لتهديد حقيقي بلا مبرر".
يعد الرئيس الأوكراني زيلينسكي شخصيا مصدر قوة ومثالا نموذجيا في التعاطي مع هذه الجبهة، فلدى الرجل خلفية إعلامية، مكنته من التعامل باحترافية مع الكاميرا، مع تسجيل حضور مميز، شكلا ومضمونا وتوقيتا، في وسائل الإعلام وعلى منصات التواصل الاجتماعي. سيرا على نهج الرئيس، لم يتردد الأوكرانيون في استثمار الشبكات الرقمية من أجل الدعاية أو بث رسائل غير ملتزمة بضوابط النشر على هذه المواقع.
انخرط الجميع في هذه الحرب، فعجت منصات التواصل الاجتماعي بالتحريض على العنف وخطاب الكراهية والدعاية المغرضة ونشر معلومات مضللة... وهلم جرا، من أمور ما كانت لتذاع لو لم يتعلق الأمر بأوكرانيا. فجأة، تحولت هذه المنصات إلى أداة للدعاية الحربية، ترويجا ودعما وتحريضا، لا يقل مفعولها، في الداخل كما في الخارج، عن نتائج المعارك المتواصلة على الأراضي الأوكرانية.
لقد صارت تقنيات صناعة زجاجات المولوتوف، للتصدي للجنود الروس، متاحة على حسابات رسمية لمؤسسات أوكرانية، كما هي الحال في صفحة القوات البرية الأوكرانية في "الفيسبوك"، أو في حساب مجلس الدفاع والأمن القومي الأوكراني على "تويتر". حرب لم تتردد شخصيات سياسية عن الانخراط فيها، فقد بث حساب فولوديمير جرويسمان رئيس الوزراء الأوكراني السابق، مقطع فيديو مدته دقيقتان وهو يصنع سلاحا يدويا. كل هذا مثل سابقة في تاريخ هذه الشبكات. فلأول مرة، تعمد هيئات دولة معينة إلى مشاركة ونشر معلومات عن وسائل يمكن استخدامها في أعمال قتالية.
كان البعد النفسي حاضرا بنصيب وافر في الدعاية على هذه المنصات، فقد نشر الأوكرانيون مقاطع وصورا لوقائع من أزمنة وأمكنة مختلفة "ليبيا، لبنان، فلسطين، سورية..." من العالم، على أنها توثيق لانتصاراتهم على أرض الميدان، دفاعا عن حوزة الدولة. وبلغ بهم الأمر حد السقوط في أخطاء مدوية، بعدما بثت وزارة الدفاع الأوكراني مقاطع من لعبة فيديو، في مقدمة شريط توثيقا لطائرة مقاتلة أوكرانية تسقط طائرة حربة روسية.
أخبار زائفة ودعاية وتحريض وسقطات أخلاقية... دون أن أي تدخل، ولا رقابة ولا تضييق من جانب منصات التواصل الاجتماعي، فلا ضير من ذلك ما دامت الغاية نبيلة، ممثلة في رفع معنويات الأوكرانيين، ولسان حال الشركات يردد "دعوا الأوكرانيين يعيشوا انتصاراتهم، حتى إن كانت وهمية". فالدعاية الكاذبة مباحة، طالما كانت في مصلحة أوكرانيا، خط الدفاع الأول عن المعسكر الغربي.
ادعاء تأكد مع تواتر الأخبار عن مراجعة هذه المنصات سياستها، فقد أعلن المتحدث باسم ميتا "فيسبوك" تخفيف قواعد الخطاب السياسي، بما في ذلك السماح ببث منشورات محرضة على العنف والكراهية ضد الآخر "الروس". هكذا أضحت الإشادة والثناء على كتيبة "آزوف" الوحدة العسكرية الأوكرانية المتهمة بالنازية الجديدة، لإيمانها بسيادة العرف الأبيض. يذكر أن الوحدة العسكرية تأسست 2014، وأدمجت رسميا في الجيش الأوكراني، مع تميزها بزي عسكري خاص مزين برموز النازية، المنتشرة إبان الحرب العالمية الثانية. وكانت ضمن قائمة المنظمات المحظورة على "فيسبوك"، رغم احتضانها من قبل مؤسسة الجيش الأوكراني.
بدا انحياز هذه الشركات واضحا، عندما أعلنت "ميتا" حذف شبكة مضللة موالية لروسيا، تتكون من عشرات الحسابات المزيفة على "فيسبوك" و"إنستجرام"، تقدم معلومات وأخبارا غير دقيقة عن التدخل العسكري في أوكرانيا. كان هذا القرار كافيا، ليعلن المتحدث باسم الكرملين نية روسيا إنهاء أنشطة شركة ميتا، والشروع في ملاحقتها قانونيا بسبب الانحياز إلى أوكرانيا، والسماح بنشر مواد تتضمن دعوات بارتكاب أعمال عنف ضد مواطني روسيا.
تدار حرب خفية أخرى، بجانب الحرب الإعلامية التي تحاول كييف تسخيرها لتوجيه الرأي العام العالمي، تتعلق بالحرب الإلكترونية، حيث شرع الطرفان في تبادل الهجمات حتى قبل بدء العملية العسكرية ميدانيا. فالتقارير تفيد بأن الهجوم الإلكتروني الروسي على أوكرانيا انطلق فعليا أواسط شباط (فبراير)، بعد نجاح موسكو في تعطيل مواقع حكومية أوكرانية "البرلمان، وزارة الخارجية..."، أرفقته برسالة تهديدية، جاء فيها "أيها الأوكرانيون، أصبحت جميع المعلومات المتعلقة بكم علنية، خافوا وتوقعوا الأسوأ، إنه ماضيكم وحاضركم ومستقبلكم".
الرسائل التهديدية وباع روسيا الطويلة في هذه الحرب، لم تمنعا الأوكرانيين من الانخراط فيها، وذلك باختراق الموقع الرسمي للكرملين. يذكر أن الهجمات الإلكترونية كانت أحد الخيارات المطروحة بمعية العقوبات الاقتصادية، على طاولة الرئيس بايدن، من إجبار روسيا على وقف التدخل العسكري في أوكرانيا. فالتقارير تتحدث عن تعطيل الاتصال بالإنترنت في روسيا، وإيقاف الطاقة الكهربائية، والتأثير في أدوات التحكم في خطوط السكك الحديدية، أي تنفيذ هجمات لشل الحياة في روسيا. خيار لا يزال قائما، كما تردد على لسان أكثر من مسؤول، في جهاز المخابرات الأمريكية.
تذهب قراءات إلى أن موسكو لا تراهن كثيرا على الحروب الموازية، فلغة السلاح والنتائج في الميدان أصدق إنباء من دعاية مضللة سرعان ما تتكشف. لكن الأمر قطعا ليس كذلك، فعلى هؤلاء أن يتذكروا حقيقة تاريخية مفادها "كم مرة تغير مصير شعب، لأن خبرا وصل متأخرا أو لأن معلومة أسيء تحليلها؟ كم مرة أصيب مشروع قومي بإحباط، أو منيت آمال أمة بأكملها بانتكاسة، لأن بيننا خائنا واحدا على الأقل؟".

الأكثر قراءة