فقراء العالم .. بعد آخر للصراع الروسي الأوكراني

فقراء العالم .. بعد آخر للصراع الروسي الأوكراني
الفاو: العالم في مواجهة أزمة غذاء، مع الارتفاع المهول للأسعار.
فقراء العالم .. بعد آخر للصراع الروسي الأوكراني
ماكرون: أوروبا وإفريقيا "ستشهدان اضطرابا كبيرا على الصعيد الغذائي بسبب الحرب في أوكرانيا.

ينظر كثيرون في دول العالم الثالث، بما في ذلك الدول العربية، إلى الحرب الطاحنة بين روسيا وأوكرانيا، باعتبارها شأنا أوروبيا خالصا، وغربيا بشكل عام، فأرض الحرب وأطرافها وحتى ضحاياها "أوغربيون" هذه المرة. أسبوع واحد من القتال، كان كافيا لكشف زيف هذا الادعاء، فما حدث مع فيروس كورونا، الذي كان عند ظهوره أول الأمر شأنا صينيا داخليا، يتكرر مع الحرب الروسية الأوكرانية، التي أكدت عمليا أن ارتباط العالم وتشابكه على أرض الواقع، لا يقل عن الذي يعاش في شبكات التواصل الاجتماعي.
ما إن تأكد أن الصراع يتجه نحو سيناريو حرب ممتدة زمنيا، مسقطا بذلك سيناريوهات متداولة في أوساط المراقبين "الحرب النفسية، اجتياح سريع..."، حتى سادت حمى الاضطراب في مختلف الأسواق، وبدأت المؤشرات والنسب في ارتفاع. وانطلقت، بشكل محتشم في بادئ الأمر، حملة تحذيرات من تأثير الأمر في سلاسل التوريد في مناطق معينة من العالم. لكن الموضوع ما لبث أن تطور، بعد مضي ثلاثة أسابيع على استمرار القتال في أوكرانيا، إلى التحذير من أزمة غذاء عالمية في الأفق، ولا سيما في إفريقيا والشرق الأوسط، بسبب الحرب.
أكدت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "الفاو" أن استمرار الأعمال القتالية في أوكرانيا يضع العالم في مواجهة أزمة غذاء، مع الارتفاع المهول للأسعار، وتعرض ملايين من البشر لخطر الجوع الشديد، جراء تعطل حركة إمدادات المحاصيل الأساسية بسبب الحرب التي "تشكل، بحسب المنظمة، تهديدات متعددة للأمن الغذائي، ستشعر بها جميع دول العالم". ولا سيما أن مؤشر "الفاو" سجل، في شباط (فبراير) أي قبل اندلاع الحرب، مستوى قياسيا لأسعار المواد الغذائية "القمح بنسبة 1/3 وزيوت دوار الشمس 2/3"، ما يعني استمرارها في الارتفاع أكثر في الأشهر المقبلة، مع تردد أصداء تداعيات الصراع في جميع أنحاء العالم.
واستندت هذه المنظمة - لدق ناقوس حيال أزمة محدقة بالنظام الغذائي العالمي - إلى مركزية طرفي الصراع في سلاسل التوريد عالميا. تعد روسيا أكبر مصدر للقمح في العالم، وتأتي أوكرانيا في المركز الخامس، وتوفران معا 19 في المائة من الإمدادات العالمية من الشعير، و14 في المائة من إمدادات القمح، و4 في المائة من الذرة، ما يمثل أكثر من 1/3 صادرات الحبوب العالمية. بلغة الأرقام، تعتمد 50 دولة، جلها في خانة الدول الأقل نموا، على روسيا وأوكرانيا في الحصول على 1/3 إمدادات القمح، ما يجعلها في قائمة الدول المهددة بالخطر.
هكذا إذن تحول الحرب دون تزويد الأسواق العالمية بهذه المواد الأساسية "القمح، الذرة، الزيوت..."، علاوة على تراجع سلسلة توريد الأسمدة الزراعية من روسيا المنتج الأول في العالم، ما يعني تأثيرا مباشرا في الإنتاج، في باقي مناطق العالم، بسبب الدور الحيوي لهذه المادة في المجال الزراعي على الصعيد العالمي. ما جعل سفين توري هولسيثير، رئيس شركة عالمية للأسمدة والمنتجات الزراعية، يعلق على مدى وجود تأثير في الإمدادات العالمية، بقوله "ليس الأمر فيما إذا كنا سنواجه أزمة غذائية. إنها كم ستكون هذه الأزمة كبيرة".
تدفع الحرب الروسية - الأوكرانية بالعالم نحو تكرار سيناريو 2007 و2008، ثم 2010 و2011، اللذين شهدا ارتفاعا في أسعار المواد الغذائية، بسبب غلاء أسعار الطاقة حينذاك. لكن المؤشرات تفيد بأن التكرار سيكون مأساويا، فالأسعار كانت مرتفعة بالفعل قبل اندلاع الحرب، بسبب آثار جائحة كورونا، ما يعني أن هذا التوتر الإضافي قد يدفع بالنظام الغذائي العالمي إلى كارثة غذائية حقيقية.
فالخطر قائم على واجهتين، الأولى حالية، وهي عدم قدرة الدولتين على الوفاء بالتزاماتهما، تجاه الأسواق الدولية المتذبذبة بعد عامين من التعثر، بسبب موجات فيروس كورونا. فالشركات الروسية لا ترغب في المخاطرة بالتعرض للعقوبات، بينما تحتاط الشركات الأوكرانية للتعامل مع لوجستيات السفر بالقرب من منطقة حرب. والثانية مستقبلية، لأن معارك الميدان ستعطل موسم زراعة القمح، الذي يوشك على الانطلاق في أوكرانيا. علاوة على أن الحرب أرغمت المزارعين على حمل الأسلحة للدفاع عن الأرض، بدل معدات الزراعة لحرثها. ما يجعل خلل التوريد متراخيا إلى المستقبل، أي أنه مستمر لما بعد انتهاء أعمال الحرب.
كانت تلك الأسباب وراء إقرار عدد من الدول مراجعة فورية لسياساتها التجارية، فمصر مثلا حظرت تصدير القمح والدقيق والعدس والفول، وسط مخاوف متزايدة بشأن احتياطيات الغذاء في أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان. من جانبها شددت إندونيسيا قيود التصدير على زيت النخيل أحد مكونات زيت الطهي... وهكذا دواليك، فالأمن الغذائي للدول في زمن الأزمات، أحق بالعناية والاهتمام من التجاوب مع دعوات وزراء مجموعة السبع، التي دعت إلى "الإبقاء على الأسواق الغذائية والزراعية مفتوحة، والحذر من أي إجراءات تقييدية غير مبررة على الصادرات".
أدرك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حجم الخطر المحدق بالعالم، فاستغل القمة الأوروبية في فرساي للتنبيه إلى أن أوروبا وإفريقيا "ستشهدان اضطرابا كبيرا على الصعيد الغذائي بسبب الحرب في أوكرانيا"، ودعا القادة الأوروبيين إلى "إعادة تقييم استراتيجياتنا الإنتاجية للدفاع عن سيادتنا الغذائية كأوروبيين، وأيضا إعادة تقييم الاستراتيجية حيال إفريقيا، وإلا فإن دولا عدة في إفريقيا ستتضرر... لذلك نحتاج إلى الاستعداد في هذا الشأن أيضا".
يبدو كلام الزعيم الفرنسي مفهوما عن القارة الأوروبية، بحكم أنها أرض المعركة، لكنه قطعا ليس كذلك، في نظر الكثير، عن القارة السمراء. قبل أن تأتي تصريحات كريستالينا جورجييفا مديرة صندوق النقد الدولي لتؤكده، بقولها "الحرب في أوكرانيا تعني الجوع في إفريقيا". فأرقام برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة تشير إلى أن الأشخاص على حافة المجاعة قفزوا إلى 44 مليون شخص، عوضا عن 27 مليونا 2019.
إنها الضريبة غير المباشرة للحروب في العالم، حتى قيل إن أثمانها أعدل قسمة بين الفقراء في العالم. فالأكيد أن لسان حال الأفارقة اليوم ما انفك يردد أن "هذه الحرب لا تعنينا وليس من العدل أن ندفع مثل هذا الثمن الباهظ... لا يمكننا أن نكون ضحايا، كلما اندلعت حرب في مكان ما في العالم".

الأكثر قراءة