انحسار غربي وبروز للمعسكر الشرقي
لا يزال من السابق لأوانه التنبؤ عند أي حد سيتوقف الصراع الروسي الأوكراني، لكن المؤكد أن هذه الحرب مليئة بالتناقضات والحجج، فالحملة العسكرية الروسية مستمرة، بغض النظر عن تكلفتها الإنسانية والمالية، ليس من طرف الروس فحسب، بل من بقية الأطراف المناهضة للتدخل الروسي، خصوصا أنهم يفاوضون ويرسمون طريق مصالحهم على حساب مصير الدولة الأوكرانية، ولن يتوقف الصراع بين طرفي النزاع على الرغم من كل الكوارث، التي سيخلفها على العلاقات الدولية والاقتصاد والأمن العالميين، فيما تبقى الخشية، من تدهور سريع للأحداث يجر العالم نحو مواجهة مباشرة بين الروس وحلف شمال الأطلسي "الناتو"، قد تتسبب في وقوع حرب عالمية ثالثة.
ستعيد هذه الحرب رسم معالم العلاقات القائمة في مناطق الشرق الأوسط والمتوسط وغرب البلقان وإفريقيا، وجنوب الصحراء الكبرى، وستؤثر في العمليات التي تنفذها أوروبا لمكافحة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفي شبكة اتفاقياتها المستندة إلى القيم، وربما حتى في توسيع الاتحاد الأوروبي في المستقبل. وقد يعمد الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة إلى تعزيز تعاونهما العسكري، من خلال التدريبات المشتركة أو حقوق إنشاء القواعد العسكرية أو التعاون في مجال مكافحة الإرهاب أو إنتاج المعدات العسكرية بشكل مشترك.
القيم الأوروبية المتعلقة بالحرب في أوكرانيا مؤسفة لكثير من الناس، إذ عدها البعض "عنصرية، ومسيئة"، بعد أن سقطت سقوطا مدويا بعد تصريحات من هنا وهناك بأن الحرب في أوكرانيا لا يجب أن تحصل، لأنها من دول العالم المتحضر، ولا يجب أن يمسها ما يمس بقية الدول في إفريقيا والشرق الأوسط، وتحديدا ما حصل في العراق وأفغانستان، ما أوجد تعاطفا من شعوب تلك الدول تجاه التدخل العسكري الروسي هناك، خصوصا أن أبرز المعلقين الأمير وليام حفيد ملكة بريطانيا العظمى.
من المتوقع أن تزداد حدة المشاحنات ويزداد الانقسام بين روسيا والغرب في الأمم المتحدة، وأن تضطر الدول غير الغربية للانحياز إلى أحد الطرفين، من منطلق التعاطف أو المصالح، وستزداد خطورة بعض المسائل على جميع الأصعدة سواء كانت سياسية أو اقتصادية، وستتفاقم حروب المعلومات، وسينعكس ذلك كله على شكل النظام العالمي، الذي يشهد بروزا لافتا للمعسكر الشرقي، الذي يملك مقومات طبيعية وعسكرية وتكنولوجية، تقلل من حاجته إلى المعسكر الغربي، ما يعني أن الغرب اليوم يشهد انحسارا كبيرا في نفوذه.
وبحسب مراقبين، فإن مبررات دخول أوكرانيا ليست للحصول على ضمانات طويلة الأمد بشأن عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، فهذا هدف كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قادرا على تحقيقه دون الحاجة إلى العملية العسكرية، كما أن اعتراف أوكرانيا بواقع الهيمنة الروسية على القرم لا يضيف شيئا ذا قيمة إلى المعادلة الجغرافية السياسية القائمة، ولا حتى نزع سلاح أوكرانيا، الذي ثبت أنه لا يشكل أي تهديد لروسيا، إذ لم تتعرض أراضيها لأي هجمات صاروخية أو جوية، وبناء عليه فإن معيار نجاح العملية العسكرية الروسية يمكن حصره في تحقيقه هدفين: الأول إسقاط النظام السياسي الأوكراني، وتعيين حكومة موالية لروسيا، والثاني استكمال عملية تحييد أوكرانيا.
وتعمل موسكو على إعادة نشر بعض قواتها البرية بعيدا عن الحدود الأوكرانية - مؤقتا على الأقل - إذا نجحت المفاوضات، لكنها تستمر في مساعدة المسلحين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا، كما أنها أرسلت قواتها التقليدية إلى منطقتي دونيتسك ولوجانسك الانفصاليتين "كقوات حفظ سلام" أحادية الجانب ورفض سحبها، حتى تنتهي محادثات السلام بنجاح وتوافق كييف على تنفيذ اتفاقيات مينسك، إضافة إلى الاستيلاء على الأراضي الأوكرانية في أقصى الغرب مثل نهر دنيبر لاستخدامها كورقة مساومة، أو دمج هذه الأراضي الجديدة بالكامل في الاتحاد الروسي، من خلال الاستيلاء على الأراضي الأوكرانية حتى نهر دنيبر والاستيلاء على حزام إضافي من الأرض "يشمل أوديسا"، يربط الأراضي الروسية بجمهورية ترانسدنيستريا الانفصالية، ويفصل أوكرانيا عن أي منفذ إلى البحر الأسود.
وسيدمج الكرملين هذه الأراضي الجديدة في روسيا ويضمن بقاء الدويلة الأوكرانية المتبقية غير قابلة للحياة اقتصاديا، كما سيتم الاستيلاء فقط على حزام من الأرض بين روسيا وترانسدنيستريا "بما في ذلك ماريوبول وخرسون وأوديسا"، لتأمين إمدادات المياه العذبة لشبه جزيرة القرم ومنع وصول أوكرانيا إلى البحر، مع تجنب القتال الرئيس حول كييف وخاركيف، والاستيلاء على كل أوكرانيا، والإعلان مع بيلاروسيا عن تشكيل اتحاد سلافي ثلاثي جديد "الروس والأوكرانيين والبيلاروسيين".
وتعليقا على المفاوضات، قالت صحيفة "فاينانشيال تايمز" الأمريكية، "إن روسيا وأوكرانيا أعدتا خطة تشمل وقف إطلاق النار، وانسحاب القوات الروسية من أوكرانيا، والتزام كييف بإعلان الحياد، ووضع قيود على تسلحها كما تمتنع عن استضافة قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها"، كما أن المصادر الأوكرانية تتحدث عن انسحاب القوات الروسية إلى حدود ما قبل 24 من فبراير الماضي.
كما يندرج خبر الاتفاق فقط في إطار الأمنيات بالنسة إلى الفريق الأوكراني المدعوم غربيا، فالمعركة الروسية لم يعد يكفيها لا حيادها ولا تطهيرها من النازيين الجدد ولا منعها من الانضمام إلى حلف الناتو، لأن قوانين الحلف تمنع ذلك، بل الهدف الاستراتيجي يبدو أنه بات في صلب العقيدة الروسية الجيوسياسية، وهذا المبدأ يقوم على أن روسيا يجب أن تصل إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط والبحر الأسود بأي ثمن وبأي وسيلة، وقد تحقق هذا الهدف بإقامة قاعدتين عسكريتين دائمتين في الساحل السوري، وبقي تأمين جزيرة القرم، التي تم احتلالها في 2014، من خلال احتلال بحر ازوف وفتح ممر بري مع الأراضي الروسية عبر إقليم دونباس.
عايشت المؤسسة الأمنية والعسكرية الروسية من قرب تجربة الحرب في سورية وتعلمت منها الكثير، وأنشأت شبكة علاقات عميقة، واليوم تلوح موسكو بنقل آلاف المسلحين إلى أوكرانيا، وترى كيف سيتعامل الغرب مع هذا النوع من التهديد، وهو المعروف بحساسيته البالغة تجاه هذا الملف، إذ تحمل سياسة الرئيس الروسي الأورواسية في طياتها عديدا من المفارقات.
الواقع أن المحدد الرئيس لموقف الرئيس الروسي من الجماعات المسلحة كان ولا يزال لأسباب جيوسياسية صرفة، ويستند إلى تصورات ناتجة عن التجربة الأفغانية، وتجربة الاختراق الغربي للجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز وسائر الجمهوريات السوفياتية. وليس من شك، في أن براجماتية الرئيس بوتين لا تمانع من توظيف أي أداة فاعلة في صراعها الجيوسياسي مع الغرب، بما في ذلك الجماعات المسلحة.