الذكريات المرهقة

سألت رجلا في الـ50 من عمره عن سبب عزوفه عن قيادة السيارة فقال نذرت ألا أدير الدركسون بعد موقف لا أنساه، وتابع: عشت في قرية كنت أتعلم القيادة داخل الحي وبين المارة وكدت أقتل إنسانا كان يمشي مع أطفاله، فكرهت القيادة من وقتها كرها عظيما. وغرس الموقف عروق الرهبة في ناصية الدماغ وتسبب في طلاق بائن لقيادة المركبات على الرغم من أنه يقود شركة ناجحة في مجال التقنية.
قد يتبادر إلى ذهن القارئ الآن لماذا كمن هذا الموقف في ذاكرة صاحبنا ولماذا حفرت هذه الأخاديد في الذاكرة طيلة العمر، ولماذا تأثر بصورة عميقة على الرغم من عدة مواقف إيجابية حفزته لأن يتخذ قرار قيادة السيارة قبل أن يحصل العكس؟.
حلل العلماء هذه الظاهرة من خلال وضع متطوعين في مواقف مرهقة، ثم تسجيل ذكرياتهم وقاموا بتحليل نشاط الدماغ خلال ذلك باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي، وحللوا رؤية المشاركين لهذه الأشياء والمواقف مجددا، واكتشفوا أن الذكريات المرهقة تكون أكثر نشاطا وإجهادا للدماغ عبر استثارات الصور المخزنة في الذاكرة والتركيز على الموقف السلبي وبذل جهد ذهني أكثر من المواقف الإيجابية ذات النشاط الأقل إرهاقا، ما يعني أن استجابة الدماغ تكون تلقائية للمواقف ذات الحساسية العالية وتزيد مع كل عملية تذكر وتتعمق حين ترتبط الصور بالمواقف المتكررة في الحياة حتى تتكثف لتشكل موقفا سلوكيا غير قابل للتغير مثل موقف صاحبنا.
وأوضح الباحثون أن الدماغ يتوافر على بنية ديناميكية يتم تحديثها وتكييفها بانتظام من خلال التجارب التي يعيشها الشخص، وخلصت نتائج بعض الدراسات السابقة إلى أن تسريع عملية نسيان الذكريات السلبية ومحوها من الذاكرة، ممكن فقط عبر تقليل الانتباه إلى الأحداث السلبية التي عشناها أو محاولة "قمع" تلك الذكريات بوعي.
إن مراقبة العقل والمشاعر والانتباه للصور التي تبرق في ذاكرة الإنسان من الأمور التي لفتت إليها عديد من الدراسات العلمية أخيرا بإمكانية التحكم فيها عبر تقنيات نفسية وبحسب باحثين، فإن التحكم بوعي في عملية النسيان أمر قابل للتطبيق من خلال لفت الانتباه إلى الذكريات غير المرغوب فيها وبذل الجهد لمحاولة صرف النظر عنها، وهي استراتيجية قهر اللحظة والتركيز على الأنشطة اللاواعية التي يقوم بها العقل لا شعوریا، لذا فإن التحكم في لحظة الآن كفيل بتغيير المشاعر وبالتالي تغيير السلوك تجاه المواقف والذكريات المرهقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي