إعارة المقاتلين لأوكرانيا .. القيم الأوروبية على المحك

إعارة المقاتلين لأوكرانيا .. القيم الأوروبية على المحك
الصراع الروسي الأوكراني آخر معارك المعسكر الغربي للحفاظ على ريادته.
إعارة المقاتلين لأوكرانيا .. القيم الأوروبية على المحك
الموقف الأخلاقي بلا قيمة أمام المعركة التي تمثلها الحرب.

رافق الحرب الروسية الأوكرانية سجال كبير حول دعوات من الطرفين للأجانب، قصد الالتحاق بجبهات القتال. فمع انطلاق العمليات العسكرية أعلنت موسكو فتح الباب أمام المتطوعين الراغبين في مساندة روسيا، يبقى هذا "التطوع" مقنعا، لأن الأخبار تتحدث عن عمل عسكري مأجور نظير راتب شهري. في المقابل، دعا الرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي مواطني الدول الغربية إلى الانخراط في "فيلق دفاع إقليمي أجنبي" للدفاع عن بلاده، وتأكيد التضامن العالمي مع أوكرانيا ضد العدوان الروسي.
أثار استعداد الجانبين لاستقبال "مقاتلين دوليين" لحمل السلاح باسم هذه الدولة أو تلك، جدلا على أكثر من صعيد، بدءا من الفكرة في ذاتها، فإشراك المقاتلين الأجانب في الحروب فكرة غير مقبولة في القانون الدولي. ثم لاعتبارات خاصة بأطراف الحرب، فأوكرانيا التي عبرت عن رغبتها في استقبال المقاتلين، منذ اليوم الثالث من الحرب، ليست بحاجة فعلية إلى الجنود المقاتلين، فلدى كييف قوات احتياطية، نحو 12 مليون شخص، تعزز قوات الجيش النظامي. أما عن استعانة روسيا بالأجانب، فأقرب ما يكون إلى علامة استفهام على وريثة تركة الاتحاد السوفياتي، وحاملة مشروع أوراسي جديد، قوامها النظرية السياسية الرابعة.
لكن المثير حقا هو التأييد الضمني لفكرة "حلف دولي للمتطوعين الأجانب" من قبل جل الدول الأوروبية، وحتى العلني أحيانا من قبل دول مثل الدنمارك وبريطانيا. ففي سياق التفاعل مع مقترحات الرئيس الأوكراني لم تتردد ليز تراس، وزيرة الخارجية البريطانية، في التأكيد على أن بلادها ستسمح للبريطانيين بالمشاركة في القتال في أوكرانيا. قبل أن يتدارك بوريس جونسون رئيس الوزراء الأمر، بتحذير أي جندي بريطاني يشارك في القتال من تداعيات محاكمة عسكرية عند العودة. الموقف ذاته أكده الأميرال توني راداكين قائد هيئة أركان القوات المسلحة البريطانية، الذي عد أنه "من غير القانوني وغير المفيد للشعب البريطاني التوجه إلى أوكرانيا للقتال".
تعد هذه الفكرة مثالية لدى جل الزعماء الغربيين للتعبير عن حالة التضامن مع أوكرانيا دولة وشعبا، وفي الآن ذاته تمثل مخرجا ينجيهم من ويلات الزج بقوات عسكرية نظامية لدعم أوكرانيا بشكل مباشر، خوفا من إشعال حرب أكبر. بيد أنها تضعهم في موقف أخلاقي غير مبرر، إذ لا يعقل أن يكون القتال هنا حلالا "أوكرانيا" وهناك حراما "سورية والعراق..."، ولا سيما أن عددا من مواطني هذه الدول "بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إسبانيا..." يمضون عقوبات سجنية، بعد عودتهم من جبهات القتال في الشرق الأوسط.
لكن الموقف الأخلاقي بلا قيمة أمام المعركة التي تمثلها الحرب الأوكرانية بالنسبة إلى المعسكر الغربي، إنها جبهة المواجهة للدفاع عن الديمقراطية والليبرالية. لذا لم تتردد في الإعلان عن دعم أوكرانيا بالسلاح، وها هي تطلق العنان لمقاتليها للانضمام إلى قافلة "القتال الأبيض" للدفاع عن القيم الغربية، سواء سمحت بذلك علنا، أو دعمت ذلك عبر نهج سياسة غض البصر عن تحركات المقاتلين المتجهين إلى أوكرانيا للمشاركة في الحرب الدائرة هناك.
تاريخيا، تعد مسألة البحث عن متطوعين أجانب للمشاركة في الحروب أمرا ضاربا في القدم، رغم إصرار الإعلام على تغيير هذه الحقيقة. فالتاريخ البشري مليء بأمثلة مختلفة لمشاركات متطوعين أجانب للقتال إلى جانب دولة معينة، لدرجة تظن معها أن كل حرب من الحروب شارك فيها متطوعون أجانب بشكل من الأشكال.
تفيد كتب التاريخ بأن حرب القرم التي خاضتها الإمبراطورية الروسية ضد الدولة العثمانية منتصف القرن الـ19 "1853 - 1856"، عرفت مشاركة فيلق المتطوعين اليونان، الذي تشكل في إمارة الدانوب 1854، وشارك في الاشتباكات فيها قبل أن تتخلى القوات الروسية عن الإمارة، ليرسل بعدها "فيلق الإمبراطور اليوناني نيكولاس الأول" إلى حصار مدينة "سيفاستوبول" 1855، وكان الحل مصير الفيلق بعد تدمير الأسطول الروسي في البحر الأسود، وخسارة حرب استمرت زهاء عام.
حضر المتطوعون حتى في الحروب الداخلية، على غرار الحرب الأهلية الإسبانية "1936 - 1939"، حيث قاتلت كتائب دولية إلى جانب المعارضة ممثلة القوميين، بقيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو. وأخرى في صف الحكومة، التي تدافع عن الجمهورية الإسبانية الثانية، ذات الميول اليسارية والشيوعية. تفيد التقارير بأن نحو 60 ألف عضو انخرط في هذه الكتائب، بينهم 15 ألفا لقوا حتفهم في القتال. وكانت الحرب ساحة صراع مختلف الأيديولوجيات، فدعمت المنظمة الشيوعية الدولية "الاتحاد السوفياتي وفرنسا" الحكومة الإسبانية آنداك، فيما ساندت الفاشية والنازية "إيطاليا وألمانيا" القوميين المعارضين.
لم تسلم الحرب العالمية الثانية من فكرة التطوع، إذ حارب الأمريكيون من أجل بريطانيا، عندما أنشأ سلاح الجو الملكي البريطاني "سرب النسر"، المكون من طيارين متطوعين من الولايات المتحدة الأمريكية في الأيام الأولى للحرب، قبل دخول واشنطن رسميا في الحرب نهاية 1941. يذكر أن بداية التطوع كانت بالقتال في فنلندا ضد الاتحاد السوفياتي "حرب الشتاء" في 1939، بعدها جاءت فكرة إقامة سرب يضم 6700 أمريكي في صفوف القوات الجوية الملكية البريطانية.
في تسعينيات القرن الماضي إبان حرب استقلال كرواتيا "1991 - 1995" انضم مقاتلون أجانب إلى قوات الدفاع الكرواتية "الجناح شبه العسكري لأحد الأحزاب الكراوتية"، وتطوع الأوروبيون من ألمانيا وفرنسا وسويسرا والمجر والبرتغال... كما انضم الألبان اليوغوسلافيون إلى الجيش الكرواتي في الحرب. وتشير التقديرات إلى أن نحو عشرة آلاف ألباني قاتلوا في الجيش الكرواتي، بينما تطوع المواطنون الروس بشكل أساسي في الجانب الصربي.
عودا إلى مجريات الحرب في أوكرانيا، وأيا تكن المبررات والدواعي وراء استدعاء الأجانب للقتال لمصلحة روسيا التي ترغب في تقليل خسائرها البشرية، والتضحية بالمتطوعين وقودا في المعارك المحتدمة على الأرض، أو مع أوكرانيا التي تعمل جاهدة على تسويق المعركة كأنها صراع مقدس من أجل الغرب والقيم الغربية. يبقى الصراع الروسي الأوكراني آخر معارك المعسكر الغربي للحفاظ على ريادته للعالم، لذلك لن يدخر جهدا من أجل كسب المعركة مهما كان الثمن، وأحد هذه الأثمان تفريخ المقاتلين من اليمين المتطرف، بإتاحة الفرصة لهم، قصد صقل مهاراتهم العسكرية في أرض المعارك، وهم المؤمنون أصلا بحتمية المواجهة المسلحة مع خصوم الغرب الأبيض، ثم نشر أفكارهم الفاشية وسط المقاتلين الآخرين، وهو ما قد يسهم في تشكيل مجموعة من القنابل اليمينية الموقوتة القابلة للانفجار في أي لحظة داخل أوروبا.

الأكثر قراءة