الوحدة الغربية تبدأ من الداخل
كشف التضامن، الذي ظهر في مؤتمرات القمم الأخيرة التي عقدتها منظمة حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع، عن تطور وانتعاش الغرب. وفي حين يواصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التدخل العسكري في أوكرانيا، فإن الديمقراطيات الأطلسية تستجيب بوحدة مثيرة للإعجاب - وإن كانت غير متوقعة إلى حد ما - من خلال تسليح أوكرانيا، وتعزيز الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي، وفرض عقوبات على الاقتصاد الروسي. وفقا لما يرصده شارلز كوبشان، زميل أقدم في مجلس العلاقات الخارجية، أستاذ الشؤون الدولية في جامعة جورج تاون ومؤلف كتاب "الانعزالية: تاريخ جهود أمريكا لحماية نفسها من العالم"، مطبعة جامعة أكسفورد 2020.
وبدلا من صد المهاجرين، تفتح الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أبوابها لملايين اللاجئين الأوكرانيين. يبدو أن الكونجرس الأمريكي قد استعاد الكياسة الثنائية الحزبية التي تفتقر إليها واشنطن منذ فترة طويلة. حتى إن فرانسيس فوكوياما المنظر السياسي يتوقع "ولادة جديدة للحرية" من شأنها أن "تخرجنا من حالة الفوضى التي نعيشها إثر تدهور الديمقراطية العالمية"، ويرجو أن "تستمر روح 1989، بفضل مجموعة من الأوكرانيين الشجعان".
لكن ليس بهذه السرعة. قد تكون المشكلات السياسية التي تعانيها الديمقراطيات الأطلسية خارج العناوين الرئيسة، لكنها لم تتلاش بعد. وفي حين يعد التدخل الروسي بالتأكيد بمنزلة دعوة إيقاظ للغرب، فإن احتمال نشوب حرب باردة جديدة لن يبعد وحده الولايات المتحدة وأوروبا من التوجهات المعادية لليبرالية والخلل السياسي.
في الواقع، من المرجح أن تخلف الحرب في أوكرانيا آثارا اقتصادية غير مباشرة ستكون لها تداعيات سياسية. ووفقا لذلك، يتعين على كل من أمريكا وأوروبا مواصلة التركيز على تسوية شؤونهما الداخلية مع تزويد سكان أوكرانيا بالموارد والاهتمام اللذين يستحقانهما.
وفي أمريكا أثناء الحرب الباردة، ساعد الانضباط السياسي الناجم عن التهديد السوفياتي على إخماد الصراع الحزبي حول السياسة الخارجية. وعلى نحو مماثل، تعمل احتمالات ظهور حقبة جديدة من التنافس العسكري مع روسيا على إحياء الوسطية الحزبية في مسائل تتعلق بإدارة الدولة.
لم يعد الجناح اليساري للحزب الديمقراطي يطالب بخفض ميزانية الدفاع والتخلص التدريجي السريع والعميق من الوقود الأحفوري. وقد خفف صقور الحزب الديمقراطي والانعزاليون الجدد في الحزب الجمهوري من انتقاداتهم للرئيس جو بايدن وأيدوا بشكل عام استجابته للغزو الروسي.
ومع ذلك، من المرجح أن تكون هذه العودة إلى التعاون الحزبي الثنائي قصيرة الأجل. لم تعتمد الثنائية الحزبية في حقبة الحرب الباردة على التهديد السوفياتي فحسب، بل استندت أيضا إلى الوسطية الأيديولوجية التي يدعمها الازدهار المشترك على نطاق واسع داخل أمريكا. ومع ذلك، فقد أدى انعدام الأمن الاقتصادي المطول وعدم المساواة الهائلة منذ ذلك الحين إلى تراجع شعبية الوسط السياسي الأمريكي، كما أفسح الاعتدال الأيديولوجي المجال أمام استقطاب حاد.
يفسر هذا التآكل في الوسط السياسي التلاشي السريع للتعاون الحزبي الثنائي الذي أعقب الهجمات الإرهابية في 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وهذا يفسر سبب مناقشة المفكرين العامين في الولايات المتحدة لاحتمالات نشوب حرب أهلية، قبل أن تستحوذ الحرب في أوكرانيا على اهتمام البلاد. ووفقا لاستطلاع أجري أواخر العام الماضي، يخشى 64 في المائة من الأمريكيين أن تكون الديمقراطية الأمريكية "في أزمة ومعرضة لخطر الفشل".
وفي الوقت الحالي، يعمل أعلى معدل تضخم شهدته الولايات المتحدة منذ 40 عاما على زيادة خطر العودة إلى سياسات التظلم غير الليبرالية. يعد ارتفاع تكلفة الطاقة والغذاء، أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل شعبية بايدن ضئيلة على الرغم من استجابته القوية للحرب في أوكرانيا.
ومع اقتراب انتخابات التجديد النصفي في تشرين الثاني (نوفمبر)، سيؤدي الدعم الجمهوري الضئيل لبايدن إلى تجدد التنافس الحزبي. وعلى الرغم من أن الجناح الانعزالي الجديد للحزب الجمهوري في الكونجرس قد يكون هادئا نسبيا في الوقت الحالي، إلا أنه يتمتع بدعم قوي بين قاعدة الحزب، ومن المرجح أن يعيد إثبات وجوده بينما تلحق العقوبات الغربية ضد روسيا الضرر بالمستهلكين الأمريكيين.
ونظرا إلى احتمال عودة الشعبوية غير الليبرالية إلى الولايات المتحدة، تحتاج إدارة بايدن بشكل عاجل إلى مواصلة تعزيز أجندتها المحلية. يوفر الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والتكنولوجيا والرعاية الصحية والبرامج المحلية الأخرى أفضل طريقة للتخفيف من استياء الناخبين وإحياء الوسط السياسي المتعثر في البلاد. تمثل الميزانية التي اقترحها بايدن هذا الأسبوع خطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح.
ويتعين على أوروبا أيضا أن تراقب من كثب جبهتها الداخلية في حين تركز على استجابتها للحرب في أوكرانيا. وبينما ظل الوسط السياسي الأوروبي أقوى من الوسط السياسي الأمريكي، وأظهر الاتحاد الأوروبي وحدة رائعة في مواجهة الغزو الروسي، فهناك إمكانية ممارسة الضغوط على التماسك الأوروبي.
قد يؤدي ترحيب أوروبا العظيم باللاجئين الأوكرانيين إلى ردود فعل محلية مع ارتفاع التكاليف وزيادة احتمال إعادة التوطين الدائم. سيتطلب تحول الاتحاد الأوروبي بعيدا عن الوقود الأحفوري الروسي استثمارات ضخمة وقد يؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة، ما قد يعوق التعافي الاقتصادي لأوروبا من جائحة فيروس كوفيد - 19. وبينما أصبحت بولندا وهنجاريا الآن دولتين في الخطوط الأمامية وتستحقان دعم الحلفاء، لا تزال كلتا الدولتين خاضعة لحكومات غير ليبرالية تهدد القيم الأوروبية الأساسية، ولا ينبغي إعفاؤهما من المسؤولية.
يتعين على الأوروبيين، مثل الأمريكيين، مواصلة العمل الجاد من أجل الانتعاش المحلي. إن من شأن إعادة الهيكلة الاقتصادية والاستثمار، وإصلاح سياسة الهجرة ومراقبة الحدود، وزيادة تجميع السيادة في السياسة الخارجية والدفاعية، أن يساعد على تعزيز تضامن الاتحاد الأوروبي وشرعيته الديمقراطية.
لقد ساعد هجوم روسيا على أوكرانيا على إحياء الغرب، لكن التهديدات المحلية للديمقراطية الليبرالية، التي كانت في الواجهة والمركز قبل الحرب، لا تزال تتطلب اهتماما عاجلا، حتى في خضم الجهود المضنية الرامية إلى دحر محاولة روسيا إخضاع جارتها. سيكون من المفارقات المأساوية أن ينجح الغرب في تحويل مغامرة بوتين في أوكرانيا إلى هزيمة مدوية، فقط لتستسلم الديمقراطيات الليبرالية للعدو في الداخل.