أزمة أوكرانيا تعيد تشكيل السباق الرئاسي الفرنسي
خلفت حرب فلاديمير بوتين في أوكرانيا تأثيرا قويا في الحملة الانتخابية الرئاسية في فرنسا. قبل الحرب الروسية، كان السباق الرئاسي يضم ثلاثة من أنصار بوتين بين المرشحين الرئيسين: جان لوك ميلينشون من أقصى اليسار، ومارين لوبان وإيريك زمور من أقصى اليمين.
بحسب ما يرصده دانيال كوين، رئيس مجلس إدارة كلية باريس للاقتصاد، وهو مؤلف، "السنوات المجيدة: انهيار النظام الصناعي وصعود المجتمع الرقمي"، (مطبعة جامعة برينستون، 2021).
ففي حين نظمت لوبان بكل فخر مناسبات التقاط الصور مع بوتين في 2017، ووافقت على ضمه شبه جزيرة القرم، وأشرفت على تنظيم حفل تلقي قروض من البنوك الروسية، أعرب زمور عن إعجابه ببوتين، الذي وصفه بأنه "وطني". ومن جانبه، دأب ميلينشون لفترة طويلة على الدعوة إلى خروج فرنسا من حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ما يعكس معاداته لأمريكا وتقاربه مع اليسار في أمريكا اللاتينية متمثلا في فيدل كاسترو وهوجو شافيز. وقد أصر المرشحون الثلاثة بكل ثقة على أن بوتين لن يحارب أوكرانيا.
ورغم أن بوتين فاجأ المرشحين الثلاثة، فإن زمور كان الوحيد الذي دفع ثمنا سياسيا حتى الآن، فقد سارعت لوبان إلى التنديد بالعمليات العسكرية، وأعادت توجيه حملتها إلى التركيز على قضايا تتعلق بالموارد المالية مثل الارتفاع المفاجئ في أسعار الطاقة، وجاءت استجابة ميلينشون أكثر تخبطا، فرغم إشادته ببسالة الأوكرانيين وشجاعتهم، فإنه عازف عن إرسال الأسلحة إليهم. وكما هي الحال مع لوبان، تركز حملة ميلينشون في الأساس على القضايا الاجتماعية المحلية، وكان حريصا على تجنب مناقشة مسألة الحرب كلما أمكن.
على النقيض من ذلك، كانت حملة زمور بالكامل تدور حول صد المهاجرين، ما جعل التأقلم مع بداية الحرب أمرا صعبا، وقد أعرب عن تحفظاته بشأن الترحيب باللاجئين الأوكرانيين، ولأنه ليس لديه أي تصريح محدد حول ارتفاع أسعار الطاقة، فقد أصبح ترشيحه يبدو في غير محله على نحو متزايد، وهو الآن يأتي متأخرا كثيرا خلف لوبان، التي كان يأمل في السابق أن يتحداها على صدارة أقصى اليمين. المتنافسون الثلاثة الأبرز في المرحلة الأخيرة من الحملة هم الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، بنحو 27 في المائة، تليه لوبان بنحو 23 في المائة، ثم ميلينشون بنحو 16 في المائة.
من بين أوضح التأثيرات المترتبة على الحرب أن فاليري بيكريس مرشحة اليمين الجمهوري التقليدي خرجت من السباق فعليا، فإضافة إلى سوء إدارة حملتها، تضرر ترشحها بشدة بسبب تحول في الدعم تجاه ماكرون، الذي لم يكتف بجني الفوائد السياسية المترتبة على الحرب الأوكرانية، بل اختار أيضا تبني بعض مقترحات بيكريس السياسية.
جاءت استجابة بيكريس لتبدل حظوظها غاضبة، فاتهمت ماكرون "بتزييف" برنامجها. لكن مشكلة اليمين الجمهوري ليست أن ماكرون يجتذب بعض أنصار بيكريس فحسب، بل تكمن المشكلة في أنه تبنى على نحو منهجي مواقفها الأساسية، بما في ذلك التقاعد عند سن الـ65، ومتطلبات العمل للمستفيدين من الضمان الاجتماعي، وخفض ضريبة الميراث. يرقى هذا إلى استيلاء كامل النطاق على يمين الوسط الفرنسي. وإذا أعيد انتخاب ماكرون، فسيترأس حزبا ذا برنامج شامل يجتذب الجميع، وبهذا يترك للجمهوريين الفتات، ويجدون أنفسهم محاصرين بين اليمين المتطرف المنبعث من جديد والحزب الحاكم العازم على التهامهم.
الواقع أن هدف ماكرون واضح، فهو لا يريد أن يلقى المصير ذاته الذي لقيه فاليري جيسكار ديستان، الذي لم تخلف رئاسته التي دامت سبعة أعوام أي أثر في الحياة السياسية الفرنسية. ومثله كمثل شارل ديجول بعد عودته إلى السلطة في 1958، يريد ماكرون إعادة بناء اليمين من الألف إلى الياء.
الحسابات بسيطة، ففي مجمل الأمر، يسيطر اليمين الفرنسي على نحو 75 في المائة من جمهور الناخبين، بما في ذلك أنصار حزب ماكرون ذاته، "الجمهورية إلى الأمام". ضمن هذه المجموعة العريضة، يتسع المجال لقوتين كبيرتين: اليمين المتطرف، الذي يمثل 30 في المائة إلى 35 في المائة من جمهور الناخبين، والجبهة الموحدة التي تضم بقية الناخبين المحافظين. وجنبا إلى جنب مع ماكرون، من الممكن أن تحكم هذه الكتلة الأخيرة فرنسا لفترة طويلة، على نحو يعيد إلى الأذهان تراث الديجولية وتجسداته العديدة بعد وفاة ديجول.
على فرض أن اليمن المتطرف اغتنم الفرصة، فقد يعيد تشكيل نفسه ليتحول إلى كتلة قوية قادرة على تولي السلطة ذات يوم، وتماما كما أجبر ديجول اليسار الاشتراكي والشيوعي تحت قيادة فرانسوا ميتران، فقد يؤدي لعب ماكرون لمصلحة المحافظين التقليديين إلى توحيد القوى إلى يمينه. ولا يحتاج اليمين المتطرف إلا إلى تصوير نفسه كبديل وحيد للسلطة الديجولية الجديدة.
أما عن اليسار، فيبدو أنه يخضع لضغوط شديدة لحمله على تحدي هذا الواقع. مهما كانت سلطته الأخلاقية عندما يتعلق الأمر بالقضايا البيئية أو قضايا العدالة الاجتماعية، فإن اليسار يخوض مباراة محصلتها صفر من موقع ضعيف، ويحظى بدعم ما يقرب من 25 في المائة من الناخبين. ثم جاءت الحرب في أوكرانيا لتزيد الطين بلة، فاليسار منقسم حول الرد الواجب على هذه الحرب والدور الذي ينبغي أن تطلع به فيها أوروبا، وفرنسا وحلف شمال الأطلسي. الواقع أن يانيك جادوت مرشح الخضر، وآن هيدالجو المرشحة الاشتراكية وعمدة باريس، اتهما ميلينشون بدعم الحكام المستبدين، وإن لم يخلف ذلك سوى تأثير ضئيل في شعبيته النسبية.
خلف الخط الفاصل الأوكراني، نجد وجهتي نظر متعارضتين حول كيفية إعادة تشكيل اليسار الفرنسي، الأولى تتمثل في مضاهاة الراديكالية في أقصى اليمين، التي يعكس صعودها فيما يبدو مطالب جمهور الناخبين الذين يشعرون بأنهم وقعوا ضحية للخيانة من قبل التيار الرئيس، وتؤكد الثانية أن اليسار أصبح منفرا في نظر أغلب المجتمع لأنه على وجه التحديد خسر عناصره المعتدلة، ولكي يتسنى له أن يعود إلى السلطة، يجب أن ينجح في اجتذاب الناخبين المهتمين بقضايا مثل البيئة، لكنهم متشككون في الاتجاه الراديكالي. الواقع أن كلا الرأيين صحيح، إذ تتلخص مشكلة اليسار في غياب أي شخص قادر على إنتاج التوليفة الضرورية.
بفضل بوتين، بات من المؤكد الآن أن ماكرون سيواجه لوبان في الجولة الثانية، كما فعل في 2017. وتتوقع استطلاعات الرأي فوز ماكرون، لكن بهامش أضيق كثيرا مما كان عليه قبل خمسة أعوام. تشير بعض الاستطلاعات إلى أن لوبان قد تحصل على ما يصل إلى 47 في المائة من أصوات الجولة الثانية، وهو مستوى غير مسبوق من الدعم لمرشح من اليمين المتطرف الفرنسي. كانت الزيادة في أسعار الوقود سببا في دعم ترشح لوبان، ولأنها لم تعلن التزامها بالحصافة المالية كمثل ماكرون، فإنها تستطيع أن تعد بتخفيضات كبيرة في ضرائب الوقود.
أعادت حرب بوتين تشكيل السباق الرئاسي الفرنسي، وحتى لو بدت النتيجة واضحة، فلا يقل عن ذلك وضوحا أن التأثيرات الجانبية المترتبة على الصراع الروسي الأوكراني من المرجح أن تفضي إلى تعقيد السياسة في أماكن أخرى من أوروبا أيضا.