شمال أوروبا .. عضوية الأطلسي حتمية وجودية
"في حين لا تزال النتيجة المحتملة للحرب التي يشنها فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا غير واضحة، فإن التدخل الروسي تسبب بالفعل في تغيير النظام الأمني الأوروبي بطرق بالغة الأهمية". بحسب ما يطرحه كارل بيلت وزير خارجية السويد من 2006 إلى 2014، رئيس الوزراء من 1991 إلى 1994، دبلوماسي دولي مشهور، شغل منصب المبعوث الخاص للاتحاد الأوروبي إلى يوغسلافيا السابقة، والممثل السامي للبوسنة والهرسك، ومبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى البلقان، والرئيس المشارك لمؤتمر دايتون للسلام، والرئيس المشارك للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.
ويضيف بيلت: أصاب تدخل بوتين الحكومات الأوروبية بصدمة عميقة، لقد استخف أغلب القادة الأوروبيين بتحذيرات الولايات المتحدة بشأن هجوم وشيك، معتبرين بوتين - على الرغم من صعوبة التنبؤ بتصرفاته - من غير المرجح أن يقدم على تصرف بهذا القدر من التهور والطيش. الواقع أن جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، تلقى معاملة قاسية إلى حد ما في زيارته الأولى إلى موسكو في أوائل 2021، لكن معظم الحكومات الأوروبية كانت لا تزال تعتقد أن الدبلوماسية من الممكن أن تنتج علاقة أكثر استقرارا.
ثم تحطم ذلك الوهم في 24 شباط (فبراير)، وهو اليوم الذي أصبح معادلا لـ11 أيلول (سبتمبر) في أوروبا: نداء إيقاظ جيوسياسي عالمي ينطوي على عاقبتين رئيستين، أولا، سيزداد الإنفاق العسكري في مختلف أنحاء أوروبا، فبعد أعوام من التثاقل والتقاعس، وعلى نحو مفاجئ، اتفق جميع أعضاء حلف شمال الأطلسي "الناتو" الأوروبيين تقريبا على هدف إنفاق ما لا يقل عن 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، فقررت ألمانيا، صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، إضافة ما يعادل 0.5 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي إلى إنفاقها الدفاعي في غضون عام واحد فقط.
ثانيا، ستتعزز قوة "الناتو" من عدة نواح، فإضافة إلى زيادة وجوده العسكري في الدول الأعضاء المجاورة لروسيا، يستعد الحلف لإضافة فنلندا والسويد إلى صفوفه. طور كل من الدولتين علاقاتها بـ"الناتو" منذ ضم روسيا شبه جزيرة القرم وتوغلاتها في شرق أوكرانيا في 2014، لكنهما الآن تعتزمان اتخاذ الخطوة الحاسمة المتمثلة في التقدم بطلب الالتحاق بعضوية "الناتو" رسميا.
لقد أوجد 24 شباط (فبراير) موقفا أمنيا جديدا تماما لفنلندا والسويد، لأنه أظهر بين عشية وضحاها أن روسيا أصبحت لن تتورع عن استخدام القوة العسكرية لفرض مخططاتها ومخاوفها على أوروبا. ولأن فنلندا خاضت حربا ضد الاتحاد السوفياتي خلال الفترة من 1939 - 1940 وكانت جزءا من الإمبراطورية الروسية طوال قرن من الزمن قبل 1917، فقد أقنع التدخل في أوكرانيا قادة فنلندا على الفور بضرورة السعي إلى الالتحاق بعضوية "الناتو".
كان ترتيب فنلندا الهش مع الاتحاد السوفياتي، ثم مع روسيا في وقت لاحق، أحد الأسباب الرئيسة وراء بقاء السويد أيضا خارج "الناتو". في أعقاب انضمام النرويج والدنمارك إلى الحلف في أواخر أربعينيات القرن الـ20، انتهجت السويد سياسة الحياد في الحرب الباردة بدعم من قوات دفاعية قوية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، انضمت فنلندا والسويد إلى الاتحاد الأوروبي في 1995، وعملت الدولتان على تعميق تعاونهما الدفاعي مع "الناتو"، وبالتالي مع الولايات المتحدة. كانت عضوية "الناتو" الكاملة تعد خيارا محتملا في تاريخ لاحق. لكن على الرغم من أن الرأي العام في فنلندا والسويد أصبح أكثر تقبلا للفكرة بعض الشيء، فإن الأغلبية تظل متشككة أو معارضة.
لكن 24 من شباط (فبراير) قلب الموازين. وفي حين لا تزال بعض العمليات السياسية المحلية مطلوبة، فقد بات من المؤكد الآن تقريبا أن الدولتين ستتقدمان بطلب العضوية قبل انعقاد قمة "الناتو" في مدريد في أواخر حزيران (يونيو). في الأسابيع الأخيرة، تغير اتجاه الرأي العام بشكل كبير، فالآن، تفضل جميع الأحزاب السياسية الرئيسة في السويد - باستثناء الحزب الشيوعي السابق وحزب الخضر المتضائل - الالتحاق بعضوية "الناتو". وفي فنلندا، أعرب كل الأحزاب السياسية من اليمين إلى اليسار عن دعمها. الواقع أننا نشهد تغيرا سياسيا هائلا، وكل هذا بسبب موسكو.
إن انضمام فنلندا والسويد إلى "الناتو" من شأنه أن يؤدي إلى تغيير البنية الأمنية الأوروبية على وجهين مهمين، أولا، ستكتسب دول شمال أوروبا القدرة على تنسيق قوات دفاعية كبيرة على مستوى المنطقة، وستزود السويد وفنلندا "الناتو" بقدرات جديدة مهمة، كما أوضحت بالفعل تدريبات القوات الجوية المنتظمة التي تجريها مع النرويج، علاوة على ذلك، سيكتسب "الناتو" مزيدا من القدرة على السيطرة على بحر البلطيق، وبالتالي دعم الدفاع عن إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا.
ثانيا، ستعمل عضوية السويد وفنلندا على تعزيز الركيزة الأوروبية داخل "الناتو". فكل من الدولتين مؤيدة لتطوير البعدين الدفاعي والأمني للاتحاد الأوروبي، وتعزيز أواصر العلاقات عبر الأطلسي، بما في ذلك العلاقة الأمنية المهمة مع المملكة المتحدة. وبينما سيظل "الناتو" الضامن الأساسي للدفاع الإقليمي، فإن الاتحاد الأوروبي - بترسانته السياسية الأوسع - سيتحول إلى تحالف أمني متزايد الأهمية، وسيزداد التنسيق بين الكيانين عمقا.
من التطورات المهمة التي تستحق المراقبة استفتاء الأول من حزيران (يونيو) في الدنمارك على رفع القيود المفروضة على مشاركة الدولة في سياسات الاتحاد الأوروبي الأمنية والدفاعية. الواقع أن هذه القيود تشكل بقايا خلافات تعود إلى فترة أوائل تسعينيات القرن الـ20، والتزمت الدنمارك - إلى جانب السويد - بزيادة إنفاقها الدفاعي إلى 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
في مجموعها، ستعمل هذه الخطوات على تعزيز الإمكانات الدفاعية في منطقة شمال البلطيق بأكملها. سيظل تعزيز القوة الدفاعية أمرا بالغ الأهمية ما دام الكرملين مستمرا على مساره الحالي. لكن الأوروبيين الشماليين أيضا يجب أن يحرصوا على عدم استفزاز روسيا، التي تمتلك موارد كبيرة ومراكز اقتصادية قريبة من السويد وفنلندا. تعد سانت بطرسبرج ثاني أكبر مدينة في روسيا ومنطقة صناعية كبرى، وتستضيف شبه جزيرة كولا قواعد الغواصات الروسية ومرافق أخرى، فضلا عن كونها أكبر تجمع منفرد للأسلحة النووية في العالم.
يصف قادة روسيا مشروعهم بأنه "صراع حياة أو موت". وبأخذ هذا التوصيف على محمل الجد، لم تعد فنلندا والسويد تنظران إلى عضوية "الناتو" على أنها خيار استراتيجي. منذ 24 من شباط (فبراير)، أصبحت العضوية حتمية وجودية.