الوعد الزائف بديمقراطية «قابلة للنشر»
تؤكد السياسة الخارجية الأمريكية - من خلال الإقناع والتحذير والعمليات القانونية والضغط الاقتصادي وأحيانا القوة العسكرية - على وجهة نظر الولايات المتحدة الأمريكية، المتعلقة بالطريقة التي يجب أن يدار العالم بموجبها. إن هناك دولتين فقط في التاريخ الحديث كان لديهما مثل تلك الطموحات الكبيرة هما بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وخلال الـ150 عاما الماضية كانت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية هما الدولتان الوحيدتان اللتان امتدت قوتهما - الضاربة والناعمة والرسمية وغير الرسمية - إلى جميع أرجاء الأرض، ما سمح لهما بالتطلع إلى عباءة روما.. وفقا لدراسة روبرت كليدسكي الأستاذ الفخري للاقتصاد السياسي في جامعة وارويك، مؤلف سيرة ذاتية من ثلاثة مجلدات لجون ماينارد كينز.
عندما ورثت الولايات المتحدة الأمريكية الموقع العالمي لبريطانيا بعد 1945، ورثت كذلك حس بريطانيا بالمسؤولية تجاه مستقبل النظام العالمي، ولقد تبنت أمريكا هذا الدور وأصبحت بمنزلة المبشرة بالديمقراطية، كما أصبح نشرها هدفا مركزيا للسياسة الخارجية الأمريكية منذ سقوط الشيوعية، أحيانا من خلال تغيير النظام، عندما استلزم الأمر ذلك.
في واقع الأمر هذا الأسلوب يرجع الى زمن الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون. لقد أشار المؤرخ نيكولاس مولدر في كتابه "السلاح الاقتصادي: صعود العقوبات كأداة من أدوات الحرب الحديثة" إلى أن ويلسون كان أول رجل دولة يستخدم السلاح الاقتصادي كأداة من أجل تحقيق الديمقراطية، وبذلك أضاف منطقا سياسيا داخليا يتعلق بالعقوبات الاقتصادية "نشر الديمقراطية" إلى الهدف السياسي الخارجي، الذي كان مناصرو العقوبات الأوروبيون يهدفون إلى تحقيقه وهو "السلام بين الدول". إن المعنى الضمني هو أنه عندما تتاح الفرصة يجب استخدام الوسائل العسكرية وغير العسكرية للإطاحة بالأنظمة "الخبيثة".
طبقا لنظرية "السلام الديمقراطي" فإن الديمقراطيات لا تبدأ الحرب، وإن الديكتاتوريات فقط هي التي تبدأ بها، ما يعني أن عالما ديمقراطيا بالكامل سيكون عالما بدون حروب. لقد كان ذلك هو الأمل الذي نشأ في تسعينيات القرن الماضي، فمع نهاية الشيوعية كان التوقع - الذي عبر عنه فرانسيس فوكوياما في مقال شهير 1989 بعنوان "نهاية التاريخ" - هو أن الأجزاء الأكثر أهمية من العالم ستصبح ديمقراطية.
لقد كان من المفترض أن التفوق الأمريكي سيضمن أن تصبح الديمقراطية القاعدة السياسية العالمية، لكن روسيا والصين وهما الدولتان الشيوعيتان الكبريان من حقبة الحرب الباردة لم تتبنياها، كما أن عديدا من مراكز الشؤون العالمية الأخرى خاصة في الشرق الأوسط لم تتبناها كذلك، وعليه أقر فوكوياما أخيرا بأنه إذا تم دفع روسيا والصين معا، "فعندئذ ستعيش حقا في عالم تهيمن عليه هذه القوى غير الديمقراطية، وهذا سيعني حقا النهاية الكاملة للتاريخ. "إن الحجة بأن الديمقراطية هي "سلمية" بطبيعتها، وأن الديكتاتورية أو الاستبداد "شبيهة بالحرب" هي حجة جذابة بشكل حدسي. إن هذه الحجة لا تنكر أن الدول تسعى إلى تحقيق مصالحها، لكنها تفترض أن مصالح الدول الديمقراطية ستعكس قيما مشتركة مثل حقوق الإنسان، وأن هذه المصالح ستتم متابعتها بطريقة أقل عدوانية، "لأن العمليات الديمقراطية تتطلب التفاوض على الاختلافات". إن الحكومات الديمقراطية مسؤولة أمام شعوبها، وللشعب مصلحة في السلام وليس الحرب.
وعلى النقيض من ذلك، وطبقا لوجهة النظر تلك فإن الحكام والنخب في الديكتاتوريات لا يتمتعون بالشرعية، وعليه لا يشعرون بالاستقرار، ما يدفعهم إلى السعي للحصول على دعم شعبي من خلال إذكاء العداوة ضد الأجانب، ولو حلت الديمقراطية مكان الدكتاتورية في كل مكان، فإن السلام العالمي سيتحقق بشكل تلقائي.
يرتكز هذا الاعتقاد على افتراضين كان لهما تأثير كبير في نظرية العلاقات الدولية، على الرغم من الأساس الضعيف لهذين الافتراضين نظريا وتجريبيا. إن الافتراض الأول هو مفهوم أن السلوك الخارجي للدولة يحدده دستورها الداخلي، وهي وجهة نظر تتجاهل تأثير النظام الدولي في السياسة الداخلية لدولة ما، وكما أشار كينيث ن والتز المتخصص في العلوم السياسية الأمريكي في كتابه 1979 "نظرية السياسة الدولية" فإن "الفوضى الدولية تحدد سلوك الدول أكثر من أن سلوك الدول هو الذي يوجد مثل تلك الفوضى".
إن تصور والتز "نظرية الأنظمة العالمية" هو تصور مفيد على وجه الخصوص في عصر العولمة، حيث يجب على المرء النظر في تركيبة النظام الدولي من أجل "توقع" كيف ستتصرف كل دولة بغض النظر عن دساتيرها المحلية. لقد لاحظ والتز "إذا كانت كل دولة مستقرة تسعى فقط إلى تحقيق الأمن، ولم تكن لديها أي خطط بشأن جيرانها، فإن جميع الدول ستظل مع ذلك غير آمنة، وذلك لأن الوسائل المستخدمة من دولة ما لتحقيق الأمن هي في حد ذاتها وسائل يمكن استخدامها لتهديد دول أخرى".
لقد قدم والتز الحل الناجع للافتراض السطحي بأنه من الممكن وبسهولة نقل العادات الديمقراطية من مكان إلى آخر، حيث اقترح أنه عوضا عن محاولة نشر الديمقراطية، سيكون من الأفضل محاولة خفض انعدام الأمن عالميا.
وعلى الرغم من وجود علاقة لا يمكن إنكارها بين المؤسسات الديمقراطية والعادات السلمية، إلا أن هذا الربط كسبب مباشر هو محل جدال، فهل كانت الديمقراطية هي التي جعلت أوروبا سلمية بعد 1945، أو أن المظلة النووية الأمريكية وتحديد الحدود من قبل المنتصرين والنمو الاقتصادي بفضل خطة مارشال هي التي أتاحت الفرصة أخيرا لأوروبا غير الشيوعية بأن تقبل الديمقراطية كقاعدة سياسية لها؟ يجادل مارك ي بيترزيك المتخصص في العلوم السياسية "فقط الدول الآمنة نسبيا - سياسيا وعسكريا واقتصاديا - تستطيع تحمل وجود مجتمعات حرة وتعددية، وإنه في غياب مثل هذا الأمن فإن الاحتمال الأكبر أن تتبنى الدول هياكل سلطة قسرية مركزية أو أن تحافظ عليها أو تعود إليها".
إن الافتراض الثاني هو أن الديمقراطية هي الشكل الطبيعي للدولة التي سيتبناها الناس في جميع أرجاء العالم بعفوية لو تم السماح لهم بعمل ذلك. إن مثل هذا الافتراض المشكوك فيه يجعل تغيير النظام يبدو سهلا، وذلك لأن القوى المسؤولة عن المعاقبة يمكنها أن تعتمد على الدعم الترحيبي لأولئك الذين تم قمع حريتهم والدوس على حقوقهم بالأقدام.
إن أنصار التحول الديمقراطي ومن خلال إجراء مقارنات سطحية مع ألمانيا واليابان في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية يستهينون بشكل صارخ بالصعوبات التي تواجه إقامة الديمقراطيات في المجتمعات التي تفتقر إلى التقاليد الدستورية الغربية. يمكن رؤية نتائج ما اقترفته أيديهم في العراق وأفغانستان وليبيا وسورية وعديد من الدول الإفريقية.
ان الأهم من ذلك هو أن نظرية السلام الديمقراطي هي نظرية تنطوي على الكسل، فهي تقدم تفسيرا سهلا لسلوك "حربي" بدون الأخذ في الحسبان موقع الدول ذات العلاقة وتاريخها. إن ضحالة الفكر تلك تؤدي إلى الشعور بالثقة الزائدة، بحيث إن جرعة سريعة من العقوبات الاقتصادية أو القصف هي كل ما هو مطلوب لعلاج دكتاتورية ما، حتى تشفى من محنتها المؤسفة.
باختصار، إن فكرة أن الديمقراطية "قابلة للنشر" تؤدي إلى الاستهانة الجسيمة بالتكاليف العسكرية والاقتصادية والإنسانية لمحاولة نشر الديمقراطية في الأجزاء المضطربة من العالم. لقد دفع الغرب ثمنا مريعا لمثل هذا التفكير، وقد يكون على وشك أن يدفع مرة أخرى.