ولاية ماكرون الثانية .. أجندة أكثر واقعية

ولاية ماكرون الثانية .. أجندة أكثر واقعية

بعد أن وضع توقعات عالية عندما فاز بالرئاسة الفرنسية في 2017، سيحتاج إيمانويل ماكرون إلى وضع أجندة أكثر واقعية لولايته الثانية. على الرغم من أن خياراته للتأثير في الشؤون الدولية لم تستنفد، إلا أنها محدودة أكثر مما كانت عليه قبل خمسة أعوام. بحسب قراءة باسكال بونيفس مدير المعهد الفرنسي للشؤون الدولية والاستراتيجية IRIS في أوروبا.
لقي انتصار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف ترحيبا واسعا. بعد كل شيء، على الرغم من أن لوبان تخلت عن فكرتها القديمة للتخلي عن اليورو، إلا أنها لا تزال تنظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنه تهديد للسيادة الفرنسية، قوة تمنع الحكومة من حماية الشعب الفرنسي من مخاطر العولمة.
من بين أمور أخرى، أرادت لوبان إعادة النظر في التحالف الفرنسي الألماني "حجر الأساس للمشروع الأوروبي منذ بدايته"، وترك القيادة العسكرية المتكاملة لحلف الناتو، والسعي إلى المصالحة مع روسيا، على الرغم من تدخلها في أوكرانيا. كان لإعجابها بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين دوافع أيديولوجية: من المفترض أنه يدافع عن الحضارة المسيحية ويشاركها ازدراءها حقوق مجتمع الميم. لكن التقارب نفسي ومالي أيضا. لوبان وبقية اليمين المتطرف لفترة طويلة لرجل قوي، وفي 2014، حصل حزبها على قرض بقيمة 9.4 مليون يورو "عشرة ملايين دولار" من بنك روسي.
لكن في حين إن انتصار ماكرون على لوبان في 2017 أثار موجة من الحماس "صوره غلاف مجلة الإيكونوميست وهو يمشي على الماء"، لم تؤد إعادة انتخابه إلا إلى الصعداء. لم يلب ماكرون التوقعات السامية للأوروبيين خلال فترة ولايته الأولى. بعض الصعوبات التي واجهها، مثل احتجاجات "السترات الصفراء" والتصور أنه "رئيس الأغنياء"، كانت من صنعه. واجهه آخرون، مثل رئاسة دونالد ترمب في الولايات المتحدة، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم COVID - 19، باختبارات لم يكن مستعدا لها دائما.
مع مواجهة أوروبا حربا ضروسا على حدودها، لا يبدو أن المشهد الاستراتيجي الجديد يفضل أجندة ماكرون لـ2017. نظرا إلى أن التدخل الروسي في أوكرانيا يعد انتهاكا واضحا للقانون الدولي، فإنه يحول دون أي شراكة فرنسية - روسية في الأعوام المقبلة على الأقل أثناء تولي بوتين زمام الأمور.
هذا تغيير كبير. منذ شارل ديجول وإنشاء الجمهورية الخامسة في 1958، كان التعامل مع الكرملين عنصرا فريدا من عناصر السياسة الأمنية الفرنسية. نظرا إلى ردعها النووي، كانت فرنسا دائما أقل خوفا من موسكو، وأقل اعتمادا على المظلة النووية للولايات المتحدة، من الدول الأوروبية الأخرى. نظر الرؤساء الفرنسيون المتعاقبون، المتحالفون مع الولايات المتحدة - لكن ليسوا متحالفين معها دائما - إلى المشاركة مع الاتحاد السوفياتي، ثم روسيا، على أنها وسيلة للحفاظ على مساحة فرنسا للمناورة.
عندما وصل ماكرون إلى السلطة في 2017 كان هدفه هو الضغط من أجل "الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي"، لجعل أوروبا أقل اعتمادا على الولايات المتحدة. كان هذا ضروريا، كما أوضح في 2019، لأن الناتو أصبح "ميتا دماغيا".
لكن بفضل بوتين، أصبح الناتو الآن أقوى وأكثر اتحادا مما كان عليه منذ عقود. تدرك كل دولة أوروبية أنه فيما يتعلق بالأمن، فإن الناتو هو اللعبة الوحيدة في المدينة، وتظل الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على ردع عدوان روسي أوسع. على الرغم من التشكيك في مصداقية أمريكا الاستراتيجية بسبب انسحابها المخزي من أفغانستان العام الماضي، فقد تمت استعادتها الآن. من خلال توضيح أن الولايات المتحدة لن تنشر قوات لحماية دولة من خارج الناتو، عزز الرئيس الأمريكي جو بايدن الحافز لدول مثل فنلندا والسويد للتخلي عن حيادها والانضمام إلى الحلف.
في ظل هذه الظروف الجديدة، يبدو نداء ماكرون السابق للحصول على قدر أكبر من الحكم الذاتي تجاه الولايات المتحدة فجأة غير مؤكد إلى حد ما بالنسبة إلى عديد من القادة الأوروبيين. في الوقت الحالي، المشروع الفرنسي للحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي هو الذي أصبح ميتا. ستستغرق استعادة العلاقات الطبيعية مع الكرملين أعواما. إذا استمر ماكرون في الضغط من أجل الحكم الذاتي، فستظل أوروبا منقسمة.
خارج أوروبا، تواجه جهود فرنسا لمساعدة الحكومات في منطقة الساحل الإفريقي على احتواء تمرد مسلحين متاعب أيضا، لقد أدى القتال بالفعل إلى قطع الصلة بين فرنسا ومالي، ولا يلوح النصر على الجماعات المتطرفة الإقليمية في أي مكان. الوضع قاتم بالمثل في جميع أنحاء إفريقيا على نطاق أوسع. لم تعد فرنسا فقط شرطي إفريقيا، مكانتها في القارة تتدهور بسرعة، ومن أسباب ذلك تزايد شعبية شخصيات اليمين المتطرف العنصرية في فرنسا، لكن الأمر الآخر هو أن فرنسا كانت أقل رغبة في الحفاظ على العلاقات مع الأنظمة الاستبدادية الناطقة بالفرنسية.
الوضع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو أيضا إشكالية. لبنان غارق في أزمات سياسية ومالية لا يستطيع ماكرون حلها، تضر الصراعات الداخلية الجزائرية بعلاقتها مع فرنسا، على الرغم من الجهود الحثيثة التي يبذلها ماكرون للتفكير بصدق في إرث الاستعمار وحرب الاستقلال الوحشية. وبعد العمل لفترة طويلة كمشارك نشط في الجهود المبذولة لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، تخلت فرنسا إلى حد كبير، مثل بقية المجتمع الدولي، عن هذه القضية.
أين يمكن للديناميكية المميزة لماكرون أن تقدم مساهمة فاعلة؟ المجال الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو مكافحة تغير المناخ. بعد أن استضافت قمة 2015 الناجحة التي أسفرت عن اتفاقية باريس للمناخ، فإن فرنسا لديها مطالبة قوية بالريادة العالمية بشأن هذه القضية. علاوة على ذلك، أصبحت السياسات الخضراء التطلعية تحظى بشعبية متزايدة في جميع أنحاء العالم، تحديدا بين الشباب، الذين يحتاج ماكرون إلى استعادة دعمهم.
من المحتمل أيضا أن يكون ماكرون مؤيدا قويا للتعددية، التي عانت في عصر القومية الشعبوية هذا. يمكن القول إن أزمة التعددية تقع في قلب أوروبا والمشكلات الاستراتيجية الأكثر إلحاحا في العالم اليوم. وهنا أيضا، تمتلك فرنسا حقا شرعيا في القيادة، بالنظر إلى أن ماكرون وضع التعددية في صميم حملته. إن فرنسا قوية بما يكفي للتأثير في الشؤون العالمية، لكنها لا تعمل من جانب واحد. بفضل مكانته العالمية المرموقة، يمكن لماكرون العمل مع اليابان وألمانيا والهند وآخرين لتشكيل جبهة موحدة للدفاع عن النظام متعدد الأطراف.
أخيرا، يمكن لفرنسا بقيادة ماكرون - التي تعمل من كثب مع ألمانيا والاتحاد الأوروبي على نطاق أوسع - أن تساعد على ضمان ألا تتصاعد المواجهة بين الغرب وروسيا بشأن أوكرانيا إلى مواجهة عالمية أكثر خطورة بين الدول الاستبدادية والديمقراطية. هذا هو آخر شيء تحتاج إليه فرنسا أو أوروبا.

الأكثر قراءة