روسيا والغرب .. الحفاظ على العلاقات أم تطوير الدفاعات؟
تؤدي الولايات المتحدة الأمريكية أدوارا دبلوماسية وسياسية عليا في دعم انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو"، في مساع مكثفة للحلف للتوسع على تخوم روسيا، وفرض معادلة جغرافية مضادة لمعادلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي بدأها 2014 بضم القرم، فيما تمارس الدول الغربية دورا أكثر جرأة وشجاعة من مواقفها بداية الحرب، التي بدأت في الأجواء الباردة ولا يمكن أن تجاوزها دون الحاجة إلى الغاز والطاقة الروسية، لكن الأجواء المشحونة تزداد خطورة، فالحرب الروسية في أوكرانيا على مشارف شهرها الثالث، ما أثار حفيظة دول التحالف، التي ترغب في زيادة الضغط على موسكو أكثر فأكثر، بالتزامن مع دعم القوات الأوكرانية، وتزويدها بالسلاح المتطور والأموال، لإلحاق أكبر ضرر بالقوات الروسية، وفي إطار الدعم الذي تبديه واشنطن لكل من السويد وفنلندا، لكن تصفية الحسابات حاضرة على مستوى الحلف، فليس كل من هو عضو في الناتو يرغب في انضمام هاتين الدولتين.
أجبرت البيئة الأمنية بعد التدخل الروسي في أوكرانيا فنلندا على تغيير سياستها الأمنية والخارجية وفق مبدأين: الأول، الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا، والثاني تطوير القدرات الدفاعية الوطنية، بما في ذلك تعزيز التعاون الدفاعي مع السويد وأمريكا والنرويج، وتحت مظلة حلف الناتو، وقد بدأت حسابات فنلندا، كما هي الحال مع جارتها السويد، في التغير عقب بداية الحرب الروسية - الأوكرانية في فبراير الماضي.
وظهر نقاش حول مدى تغير البيئة الأمنية بعد الحرب، عن تلك البيئة، التي دفعت دولة مثل فنلندا إلى أن تظل محايدة منذ الحرب الباردة، وأن أهداف الرئيس بوتين العسكرية ستتخطى أوكرانيا، وبالتالي تصبح العاصمة هلسنكي التي ترتبط بحدود برية مع روسيا مهددة بهجوم مماثل لكييف، وبالنسبة إلى السويد التي لا ترتبط بحدود برية أو بحرية مباشرة مع روسيا، فإنه رغم عدم وجود مخاوف مباشرة من التدخل الروسي، لكنها تملك جزيرة تقع في منتصف بحر البلطيق تسمى "جوتلاند"، وبالتالي تملك موقعا استراتيجيا قريبا من دول البلطيق، ومن الجارة فنلندا، وتخشى السويد من أن تشمل أهداف روسيا بعد أوكرانيا الاستيلاء على جوتلاند أو تهديدها.
الدولتان قانونيا كاملتا الاشتراطات للانضمام إلى الناتو، إذ تحدد المادة العاشرة من ميثاق حلف الناتو آلية انضمام الدول ضمن "سياسة الباب المفتوح"، إذ إن عضوية الناتو متاحة لأي دولة أوروبية تسهم في تعزيز مبادئ الحلف وأمنه، كما تمنح المادة 13 من ميثاق الناتو الأعضاء حق مغادرة الحلف، ويحدد الناتو متطلبات الانضمام في النقاط التالية، وهي التمسك بقيم الديمقراطية والتسامح والتنوع، والمعاملة العادلة للأقليات، وأن تكون القوات العسكرية تحت سيطرة مدنية، ضمن توافق النظام السياسي للدولة مع اقتصاد السوق.
الظروف الأمنية جعلت الانضمام إلى حلف الناتو بمنزلة الحلم لكل من السويد وفنلندا، لكن الانضمام في هذه الفترة تحديدا يكاد أن يكون كابوسا، فهو يقرب المسافة من روسيا، التي تلمح باستخدام أسلحة نووية في حال حدث أي هجوم على قواتها في أوكرانيا، كما أن روسيا خاضت الحرب على أوكرانيا حتى لا يكون الناتو على مرمى حجر من أمنها القومي، فيما تتحقق هذه المخاوف لكن من دول أخرى، ما يعتبر فشلا لمخططها الرامي إلى إعادة رسم الهيكلة الأمنية في أوروبا لمصلحتها، إذ يعد انضمام فنلندا وحدها زيادة الرقعة الجغرافية بمساحة تقدر بـ1300 كيلومتر من الحدود المباشرة بين الناتو وروسيا.
كما أن مدينة سان بطرسبرج ثاني أكبر المدن في روسيا، ستصبح على بعد 170 كيلومترا فقط من دولة عضو في الناتو، كما يمكن لقوات الناتو منع الأسطول الروسي من الوصول إلى المياه الدافئة، من خلال سد خليج فنلندا من الشمال، ومضيق البسفور من الجنوب، من خلال عضو الناتو تركيا، وسيكون أكبر سبب يقلق روسيا، هو شبه جزيرة كولا، وهي منطقة مجاورة لفنلندا تتمتع بأهمية استراتيجية، وتضم مدينة سيفيرومورسك - مقر الأسطول الروسي الشمالي، وهذا الأسطول مكلف بحماية المنطقة القطبية الشمالية، ولا سيما بحر بارينتس وبحر كارا والبحر النرويجي والمدخل الشمالي لروسيا من المحيط الأطلسي.
يمتاز هذا الأسطول بأهمية كبيرة لموسكو، ونظرا إلى هذه الأهمية الكبيرة سبق أن وقع الرئيس الروسي بوتين أمرا تنفيذيا في 2020 لتحويله إلى كيان عسكري إداري مستقل، بدءا من أول يناير 2021، وهي المرة الأولى في التاريخ الروسي، التي يحمل فيها أسطول بحري صفة إدارية عسكرية مستقلة عن بقية الإدارات العسكرية الروسية، وما يعنيه ذلك من إلحاق فرق برية وجوية ومدنية به.
من جهة أخرى، على خلفية تدهور علاقات روسيا بالدول الغربية في إثر شن روسيا الحرب على أوكرانيا، نشأت مخاوف من أن يؤثر الصراع الروسي - الغربي سلبا في التعاون في منطقة القطب الشمالي، مع كل ما يحمله ذلك من تداعيات خطيرة بالنسبة إلى المنطقة الحيوية للأطراف المختلفة، التي ظلت منذ 2014 حتى وقت قريب المنطقة الأقل تضررا من الأزمات المتفاعلة بين روسيا والغرب.
ونتيجة لأثر الأزمة في أوكرانيا التي تمتد إلى كل الملفات المرتبطة بعلاقات روسيا بالغرب سواء كانت ملفات دولية أو إقليمية، برزت - بشكل خاص - مخاوف من احتمالات تصاعد المواجهة الروسية - الغربية، واكتسابها أشكالا أكثر خطورة، وقد حمل تحذير وزارة الخارجية الروسية من مخاطر حدوث صدام غير مقصود بين روسيا وحلف الناتو في منطقة القطب الشمالي، إشارة واضحة في هذا الشأن.
ويعد هذا أول تعليق روسي رسمي على إجراء مناورات الناتو في مارس الماضي، التي حملت عنوان "الاستجابة الباردة 2022"، التي جرى الجزء البحري منها في بحر النرويج، وتعد مناورات "الاستجابة الباردة 2022" أكبر تمرين لحلف الناتو في المنطقة على مدار الـ30 عاما الماضية، وشارك فيها نحو 30 ألف جندي من 27 دولة، بما فيها شريكتا الحلف فنلندا والسويد، إضافة إلى نحو 220 طائرة وأكثر من 50 سفينة حربية.