التجربة الكورية في الابتكار والريادة
أصبحنا يوما بعد يوم ندرك أن للابتكارات النوعية أهمية كبيرة جدا في حياتنا الاجتماعية العامة منها والخاصة، ونلمس مدى تأثيرها في الجوانب الاقتصادية والدفاعية والأمنية، بل أصبحت من الضرورات والركائز الأساسية لتحقيق التميز والمنافسة والريادة والصدارة بين الدول، بل ضرورة ملحة في تنوع استثماراتها وبناء اقتصاداتها بما يسمى الاقتصاد المعرفي وذلك بالاستفادة من جميع الأفكار الجديدة والتسابق في الابتكارات النوعية وتحويلها إلى منتجات ذات جودة وقيمة عاليتين، ما يؤدي إلى تميز الدول وزيادة قدراتها وقوتها مع عدم إغفال مواصلة البحث والتطوير للابتكارات الحالية واستدامتها، ولذا نرى أن الدول التي تحتل الصدارة في ميدان الابتكار خرجت من التبعية والاعتماد على الآخرين إلى الاستقلالية والتميز والريادة، وسيكون محور حديثي في هذا المقال عن نموذج يحاكي ما ذكرته سابقا، وسأتحدث عن تجربة الابتكار في كوريا الجنوبية ومنهجية صندوق الاستثمارات العامة في الاستفادة من عقد الشراكات مع الشركات الكبرى في مجالات الابتكارات النوعية المختلفة لبناء اقتصاد معرفي صناعي بأياد محلية متوافق مع رؤية مملكتنا الغالية 2030.
نجد أن الدول الكبرى تتنافس في مجال الابتكار لقناعتها التامة بأنه هو المصدر الحقيقي للقيادة والسيادة، ومما يؤكد ذلك عند الاطلاع على التقارير الدولية والخاصة بهذا المجال نجد أن المنافسة قوية لاعتلاء عرش صدارته، من هذه التقارير تقرير مؤسسة "بلومبيرج" Bloomberg الصادر بتاريخ 03 شباط (فبراير) 2021 الذي يشير إلى استعادة كوريا الجنوبية - محور حديثنا - صدارة أفضل عشر دول على مستوى العالم في الابتكار واحتلت بذلك المرتبة الأولى، تليها سنغافورة وسويسرا وألمانيا والسويد، واستحقت بذلك لقب الدولة ذات الاقتصاد الأكثر تقدما من الناحية التكنولوجية، وأشار التقرير إلى أن أفضل مقياس الأداء لها كان في مجال براءات الاختراع حيث احتلت المرتبة الأولى في العالم، والثانية من حيث كثافة البحث والتطوير وإجمالي القيمة المضافة حسب التصنيع، والثالثة من حيث تركيز الباحثين والرابعة من حيث كثافة شركات التكنولوجيا المتقدمة، كونها موطنا لشركات تعد من أقوى وأغنى الشركات مثل "سامسونج" Samsung و"إل جي" LG و"كيا" Kia و"هيونداي" Hyundai، ووفقا لتصنيفات مؤشر الابتكار العالمي لعام 2021 Global Innovation Index: GII الذي تصدره المنظمة العالمية للملكية الفكرية World Intellectual Property Organization: WIPO الذي يتضمن أحدث ترتيب عالمي للابتكار لـ 132 اقتصادا عالميا، احتلت كوريا الجنوبية الصدارة ضمن أفضل خمس دول لاقتصاد أكثر ابتكارا على مستوى العالم.
في عام 2007 زرت كوريا الجنوبية وكانت بدعوة رسمية ضمن وفود من 21 دولة، وكان من ضمن أجندة الزيارة التعريف بالحكومة الإلكترونية لديهم في ذلك الوقت وما وصلت إليه من التقدم التكنولوجي والتقني والمعرفي، وشدني في ذلك الوقت خصوصا التقدم في الاتصالات والأنظمة الإلكترونية، إضافة إلى التقدم الصناعي المأهول ووفرة العمالة المحلية المتميزة. الجدير بالذكر أن مساحة كوريا الجنوبية جغرافيا صغيرة حيث تبلغ مساحتها نحو 100 ألف كيلومتر مربع وعدد سكانها في حدود 50 مليون نسمة، وتاريخيا كانت تحت الاستعمار الياباني وبعد ذلك الأمريكي وتم إعلان استقلالها في عام 1947، إلا أن الحكومة الكورية وضعت خططا استراتيجية ذات أهداف واضحة مكنتها من النهوض من قاع الدول الفقيرة ودول العالم الثالث إلى إحدى الدول المتقدمة في خلال 40 عاما واعتلاء صدارة الابتكار كدولة مبتكرة من خلال الثقة بالإمكانات الموجودة سواء من العنصر البشري أو الاستفادة من الموقع الجغرافي كونها تقع بين دولتين صناعيتين كبيرتين "الصين واليابان"، أو من خلال الانفتاح على العالم الخارجي، وقد ذكرت في مقال سابق أن الاهتمام بالتعليم والعمل على تطويره من خلال تطعيمه بالابتكارات النوعية والتكنولوجية من أهم ركائز النمو الاقتصادي المستدام، إضافة إلى البحث العلمي والتطوير والتصنيع والشراكات الدولية، ولعل المطلع على التجربة الكورية يجد أن التركيز على هذه الجوانب كان من أولوياتها، فعلى سبيل المثال، احتلت موقع الصدارة بين دول العالم من حيث الإنفاق على التعليم الذي يقود إلى التفوق الصناعي المبني على الابتكار، كما أكد ذلك التقرير الصادر من منظمة Education at Glance 2021، إضافة إلى إنشاء عديد من المراكز والهيئات المعينة بالبحث العلمي والتطوير والابتكار، وشجعت القطاع الخاص من الشركات الكبرى وغيرها على الاستثمار في هذا المجال وتخصيص جزء كبير من ميزانياتها للابتكار والبحث والتطوير والتعاون مع الجامعات والشراكات وفتحت باب الاستثمارات الخارجية وبرامج الاستحواذ، ولذا أصبحت ضمن مصاف الدول الصناعية الكبرى وتشكل صناعتها ما يقارب 50 في المائة من الناتج المحلي، وأصبحت نموذجا يحتذى به في هذا المجال.
وأرى أن الاستثمار المستقبلي يكمن في توطين الابتكارات النوعية مثل الرادارات والحساسات الإلكترونية والروبوتات والطائرات دون طيار وتقنيات الصواريخ والأقمار الصناعية والرقائق الإلكترونية وتقنيات الليزر والطاقة الذرية والبطاريات وغيرها، ضرورة ملحة كونها ذات قيمة إضافية كبيرة للاقتصاد ويعتمد عليها معظم الأجهزة العسكرية وكذلك الاستخدامات المدنية، ويكون ذلك من خلال التركيز على العوامل السابقة والاستفادة من تجارب بعض الدول في ذلك مثل التجربة الكورية ومن خلال استقطاب الشركات الصناعية الرائدة في هذه المجالات أو الاستحواذ على حصص الأغلبية في مثل هذه الشركات لتوجيه المنفعة من هذه الشراكات داخل الوطن واتخاذ القرارات المناسبة لنا، ولعل مثال توطين صناعة السيارات الكهربائية من خلال استثمار صندوق الاستثمارات العامة في شركة لوسيد Lucid Motors وامتلاكه أكثر من 60 في المائة من أسهمها يعد نموذجا استراتيجيا للتوجه والعلاقة بين الاستفادة من الابتكارات النوعية وتوطين الصناعات المتميزة والاستثمار فيها محليا وأنهما يسيران في خط تكاملي لتحقيق الأهداف المنشودة.