ضد «مزاج اللحظة» والانتشاء .. هكذا تكلم هنري كيسنجر

ضد «مزاج اللحظة» والانتشاء .. هكذا تكلم هنري كيسنجر
هنري كيسنجر
ضد «مزاج اللحظة» والانتشاء .. هكذا تكلم هنري كيسنجر
النظام العالمي من أهم المواضيع التي يتناولها كيسنجر.

احتفل هنري كيسنجر "ثعلب السياسة الأمريكية" بعيد ميلاده الـ99 قبل أيام، 27 أيار (مايو)، على وقع اتهامات بنشر الدعاية الفاشية لروسيا. ولم تتردد منابر إعلامية غربية في عده "شريكا للسلطات الروسية"، بعد تصريحاته في منتدى دافوس، التي دعا فيها أوكرانيا إلى التنازل عن بعض أراضيها لمصلحة روسيا، من أجل إنهاء الحرب. وألح على ضرورة التوصل إلى اتفاق سلام بين موسكو وكييف، حتى لا يتحول الصراع إلى حرب عالمية بين روسيا وحلف الناتو، فالبقاء على الحياد أفضل وأنسب الخيارات أمام أوكرانيا.
كلام شيخ الدبلوماسيين الأمريكيين عن الصراع الروسي - الأوكراني ليس بالجديد، إذ سبق له أن تحدث في حوار مع صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية، عن أننا "نعيش في عصر جديد تماما، فالوضع الجيوسياسي على مستوى العالم سيشهد تحولات كبيرة، بعد انتهاء حرب أوكرانيا". قبل أن يصدح بندائه "يجب أن نفهم أننا نعيش الآن في عصر جديد تماما، ومع انتشار التكنولوجيا في جميع أنحاء العالم، ستحتاج الدبلوماسية والحرب إلى نهج مختلف، وسيكون ذلك تحديا".
يعد كيسنجر من رموز مدرسة الواقعية السياسية للعلاقات الدولية، التي تضع المصالح العملية للدول قبل مواقفها الأيديولوجية، التي صارت ضابطا أطر مواقفه وتحركاته، حين كان مستشارا للأمن القومي "1969"، ثم وزيرا للخارجية الأمريكية "1973". وطبعت فترة توليه حقيبة الدبلوماسية بالانفراج الدولي مع الاتحاد السوفياتي، وإعداد الأرضية المناسبة لانطلاق العلاقات الدبلوماسية الأمريكية الصينية خلال عقد السبعينيات، ما أدى حينها إلى إبعاد بكين عن السقوط في أحضان الاتحاد السوفياتي.
يحضر اسم الرجل في إنهاء التدخل الأمريكي في حرب فيتنام، حيث علق بعد مراقبة الوضع ميدانيا هناك، بقوله "لا معنى للانتصارات العسكرية في فيتنام". كما اشتهر فيما يعرف باسم دبلوماسية الوسيط المتنقل في الشرق الأوسط، حيث سجل حضورا لافتا في الصراع العربي الإسرائيلي طبعه الانحياز لكفة تل أبيب، لدرجة مخالفته أكثر من مرة مواقف وقرارات الإرادة الأمريكية تجاه إسرائيل، كما أثبت ذلك مارتن أنديك الدبلوماسي الأمريكي في كتابه "سيد اللعبة". ونصح الإسرائيليين باتباع سياسة "الأرض مقابل شراء الوقت"، فالهدف، من وراء العملية، هو إنشاء نظام إقليمي مستقر وليس تحقيق السلام.
ارتبط عراب اتفاقية "كامب ديفيد" بدسائس الولايات المتحدة الأمريكية في الخارج، فأصابع الاتهام - حسبما نشر من وثائق لوكالة الاستخبارات الأمريكية - تشير إلى ضلوعه 1973 في الانقلاب العسكري، بقيادة جيستو بونشيه ضد الرئيس سلفادور أليندي الذي اغتيل في عملية كوندور، البرنامج السري القمعي ضد الحكومات اليسارية في أمريكيا اللاتينية، وكان صاحب الضوء الأخضر للمجلس العسكري في الأرجنتين، لإشعال حربهم القذرة، وكانت يده طويلة في تقديم الدعم والمساعدة للأكراد، حد تخصيص مأساة الأكراد بفصل في سيرته الذاتية، ورفض مشروع روجرز للسلام "1969" لإنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي، عادا المشروع انتصارا للزعماء العرب المتطرفين!
اليوم، وهو على أعتاب المائة عام، لا يزال ثعلب السياسة الأمريكية قادرا على استقراء النظام الدولي، وتحليل تحركات لاعبيه من منظور واقعي، حتى بدا كأنه صوت نشاز ضد الرأي العام الغربي. فالرجل عاكس تأكيد الرئيس بايدن على استمرار الحرب في أوكرانيا، والعقوبات ضد روسيا، ورفض تصعيد وحشد الإدارة الأمريكية لحلفائها في آسيا لمحاصرة نفوذ الصين، وإنهاء واشنطن لسياسة "الغموض الاستراتيجي"، بعد تهديدها بالتدخل عسكريا في تايوان.
لا ينطلق عراب السياسة الأمريكية من فراغ، وكلامه عن "مزاج اللحظة" الذي يقود إلى التصعيد ضد روسيا، أصالة عن نفسه، ونيابة عن تيار في النخبة المالية داخل أمريكا، وتأكد هذا الأمر بتزامن حديثه مع افتتاحية صحيفة "نيويورك تايمز"، جاء فيها أن "التوصل إلى سلام عن طريق التفاوض قد يتطلب اتخاذ كييف بعض القرارات الصعبة، لأن تحقيق نصر عسكري حاسم ليس بالأمر الواقعي".
واقعية كيسنجر بدت واضحة باقتراح تفاوض كييف مع موسكو، وحتى تقديم بعض التنازلات، لأن المقصود حقا بخيار التفاوض هم الأمريكيون مع الروس لا الأوكرانيون مع الروس، فالكل يدرك أن القيادة الأوكرانية الحالية تتلقى التعليمات مباشرة من واشنطن، وأي قرار عن مستقبل الحرب وخيار التفاوض أو التنازل من عدمه يقرر في واشنطن وليس في كييف.
يذهب العجوز - بجرأة قل نظيرها - في قراءته الوضع العالمي حد القول "إنه ليس من الطبيعي أن تكون للصين وروسيا المصالح نفسها في جميع المشكلات المستقبلية، وبالتالي، فبعد حرب أوكرانيا، سيتعين على روسيا إعادة تقييم علاقتها بأوروبا على الأقل، هذا لا يعني أن أيا من الصين وروسيا ستصبح صديقا حميميا للغرب، لكن المقصود هو أنه في قضايا معينة سيكون خيار التعامل بنهج مختلف قائما.. أي أنه في الفترة المقبلة، يجب ألا نجعل روسيا والصين في كتلة واحدة".
ويقرأ محللون في حديثه عن أجل شهرين للوصول إلى اتفاق أو الشروع فيه على الأقل، إشارات إلى ورطة المعسكر الغربي، على أكثر من جبهة، فاقتراب فصل الخريف يعني ذروة أزمة الطاقة والغذاء على الصعيد العالمي، واستمرار المواجهة بالإيقاع ذاته تعني تشكيل اتجاهات وأحلاف جديدة على المسرح العالمي مع مرور الزمن. لذا بات من الضروري - وفق رؤية كسينجر - إيجاد حل أو توافق قبل أن يتبلور تحالف عالمي، بين الصين وروسيا وبقية دول البريكس "الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا" وحتى دول الخليج "الدول المالكة للمواد الخام في العالم".
علاوة على خوف النخب المالية الغربية من تشكل منظومة مالية جديدة موازية للقائمة حاليا، بسبب استمرار معركة تكسير العظام بين المعسكر الغربي وموسكو. فالعقوبات سلاح ذو حدين، من شأن الإمعان في استخدامه أن يضيق من نطاق تداول اليورو والدولار إلى مساحات أصغر بكثير من التي يشغلانها الآن. خاصة بعد قرار موسكو اللعب بورقة الروبل في الصراع، حيث هدد بوتين باستخدام الروبل لدفع ثمن صادرات النفط والغاز الروسيين. وتخشى أصوات من داخل المعسكر الغربي أن يؤدي استمرار المعركة إلى تحقيق روسيا انفصالا اقتصاديا وماليا عن الغرب، ما يمثل إعلان نهاية النفوذ الغربي في روسيا.
وفاء لأدبيات المدرسة الواقعية التي ينتمي إليها، وبعيدا عن مزاج لحظة الانتشاء، وبروباجاندا الإعلام التي تدير حربا أشد وطأة من معارك الميدان، يصر ثعلب السياسة الأمريكية - وهو في أرذل العمر - على قول الحقيقة، حتى إن كانت مزعجة للرأي العام، فالعجوز واحد من رجال الدولة الذين أسهموا في صناعة الحلم/ المجد الأمريكي، الذي يخشى عليه من الزوال.. لهذا تكلم كيسنجر.

الأكثر قراءة