ما بعد أوكرانيا .. هندسة نظام عالمي جديد

ما بعد أوكرانيا .. هندسة نظام عالمي جديد
يدرك صناع القرار في الإدارة الأمريكية حقيقة الوضع الجديد.

يقف العالم على أبواب مرحلة تحول كبيرة، تبشر أو تنذر - بحسب حجم الاستفادة من النظام الحالي - بولادة عالم جديد. فالتقلبات التي يشهدها عديد من المناطق في العالم دليل قاطع على انطلاق مخاض التشكل، بعد عجز تركة ما بعد الحرب الباردة عن مسايرة متغيرات النظام الدولي الجديد. تعد الحرب الروسية في أوكرانيا الصورة الأبرز للمرحلة الجديدة، على الرغم من أن عملية "هندسة نظام عالمي جديد" على وقع موازين القوى اليوم، انطلقت قبل الحرب بأعوام.
صحيح أن الإجماع قائم بين خبراء الشأن الدولي، على أن أهم نتيجة للحرب الروسية في أوكرانيا ستكون أفول الأحادية القطبية، فروسيا ستقدم نفسها بعد هذه الحرب كقطب ثان مواز للولايات المتحدة الأمريكية. لكن ماذا عن التنين الصيني التي يحاول منذ عقود إزاحة واشنطن عن قمرة القيادة، معتمدا نهج الدبلوماسية الناعمة، سياسة القروض وغزو الأسواق، وماذا عن القوى الإقليمية الصاعدة "الهند، البرازيل..." التي تسعى لإثبات قوتها، بإعادة تموضعها الجيوسياسي بشكل يتوافق مع المرحلة المقبلة؟
صحيح أن مراحل التحول عبر التاريخ عادة ما تكون خطرة ومخيفة، لأن الدول الكبرى تستعملها لإعادة إثبات قوتها، بحثا عن النصيب الأكبر في الكعكة المقبلة، نظير ذلك تكون الدول الصغيرة عادة ثمن صراع الكبار، حيث تصبح جوائز تقدم في سياق ترضية أطراف الصراع، ويحدث أحيانا أن تتحول إلى ساحة معركة للأطراف الدولية المتنافسة، مثلما عليه واقع الحال في أوكرانيا.
يدرك صناع القرار في الإدارة الأمريكية حقيقة الوضع الجديد، فسردية "نهاية التاريخ" (1990) أضحت جزءا من الماضي، بعدما دخل العالم حقبة "نهاية نهاية التاريخ" (2022). وما أحاديث هنري كيسنجر المزعجة للرأي العام الأمريكي سوى تأكيد لهذه الحقيقة، التي لم تتردد قيادات سياسية مهمة في الاعتراف بها، فمطلع العام الجاري تحدث رئيس هيئة الأركان المشتركة عن أن "العالم الآن فيه ثلاثة أقطاب، وأن الولايات المتحدة لا تزال القطب الأقوى، لكن هناك قطبين جديدين هما روسيا والصين".
تعدى النقاش في مراكز صناعة القرار عالميا حرب أوكرانيا، بالحديث عن "ما وراء أوكرانيا"، فأبعاد المعركة أكبر بكثير من أوكرانيا نفسها، وقد تصل إلى حدود الفصل بين حقبتين من التاريخ العالمي، ولا سميا بعد اليقين من انتهاء صلاحية النظام السياسي العالمي الحالي، فالأمم المتحدة بشكلها وقواعدها ومنظماتها الأساسية باتت عاجزة عن مواجهة الأزمات الناشئة، ولا حتى تلك التي ستنشأ مستقبلا.
يقرأ خبراء معركة أوكرانيا أنها "مجرد صاعق لمعركة أكبر وأوسع وأعمق"، فما يجري الآن لحظة انعطاف تاريخية ستأخذ وقتها، فيما يتكثف غضب الغرب من الوقائع الجديدة، عبر وصوله إلى أقصى حدود التصعيد الممكنة. كشف توالي أيام الحرب في أوكرانيا أن جوهر الصراع حول النظام العالمي الجديد بمختلف أبعاده، أي تغيير النظام السياسي العالمي، وإنهاء حلف الناتو، وإنهاء الوضع الخاص للدولار كعملة عالمية، وحل الأزمات الإقليمية المختلفة التي كانت معلقة طوال عقود نتيجة الهيمنة الأمريكية.
بدا فلاديمير بوتين، وهو يجيب في نيسان (أبريل) عن سؤال ماذا يحدث اليوم؟ واثقا من الهدف المرسوم إلى أقصى الحدود، بقوله "اليوم يتم إلغاء نظام العالم أحادي القطب الذي تشكل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهذا هو الشيء الرئيس"، وجدد الرئيس السابق دمتري مدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن في روسيا، تشبث روسيا بهذا الطموح، مطلع الشهر الجاري، حين صرح بأن "العالم بحاجة إلى هندسة نظام أمني عالمي جديد"، معلنا أن أحد الأهداف التي تسعى روسيا إلى تحقيقها من عملياتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، هو "تمهيد الطريق نحو إقامة هذا النظام المأمول، ونقله من نطاق الأمل والحلم إلى أرض الواقع".
بعيدا عن معطيات الحرب بما تحمله أرقامها من دلالة، إذ وصل الدعم الأمريكي لكييف إلى 54 مليار دولار خلال ثلاثة أشهر فقط، هناك أكثر من مؤشر على نهاية عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعالم ما بعد الحرب الباردة، والبحث عن معالم نظام جديد، يخلف "الفوضى المنظمة" التي ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود، وفق منطق الغلبة للأقوى.
أولا، تعزيز السباق المحموم نحو التسلح، ولا سميا الأسلحة المتطورة والفتاكة، فقد أعلنت اليابان وألمانيا رفع سقف ميزانية الدفاع إلى 2 في المائة من إجمالي ناتجهما المحلي، وهذا رقم ضخم قياسا بحجم اقتصاد الدولتين، فألمانيا مثلا تتحدث عن تخصيص مائة مليار يورو لتحديث الجيش، أما رئيس الوزراء الياباني فقد وعد بإنفاق 60 مليار يورو العام المقبل، على أن يرتفع هذا الإنفاق إلى مائة مليار يورو خلال عامين.
ثانيا، تراجع الفكرة الديمقراطية في العالم، بوجود قوى دولية "الصين وروسيا..." تتعامل مع دول وأنظمة غير ديمقراطية، بمنطق براجماتي خالص، بعيدا عن إملاءات واشتراطات المعسكر الغربي، بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة ثقافة المؤسسات. وهذا ما تأكد في التقارير المتعلقة بتقييم مؤشر الديمقراطية في العالم، فالأرقام تثبت الانحصار البين للديمقراطية عالميا في الأعوام الأخيرة، حتى في دول كانت مهد ولادة الفكرة.
ثالثا، فشل النظام الدولي الحالي في التعبير عن موازين القوى القائمة حاليا، ولا سيما بعد استعادة قوى خسرت الحرب العالمية الثانية "اليابان، ألمانيا، إيطاليا" مكانتها الدولية المفقودة، ودخول منافسين جدد حلبة الصراع "الصين، الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا..." بحثا عن موطئ قدم في معركة صياغة نظام عالمي، بقواعد جديدة تعكس موازين القوى الحالية، وتمنع أي دولة أو تحالف إقليمي من شل قدرته على العمل "إسقاط حق الفيتو".
نهاية صلاحية نظام القطبية الأحادية باتت حقيقة ساطعة، لكن نجاح معركة بوتين في أوكرانيا بالتأسيس لنظام عالمي جديد محل شك وريبة. فالحرب على العراق 2003 كانت بداية أفول مجد الولايات المتحدة الأمريكية، بعد استعمالها القوة من دون وجود مبرر أو مسوغ قانوني، ثم انتقل هذا الانفلات إلى الآخرين مؤطرا بسؤال استنكاري مؤداه، لماذا يتصرف طرف دولي بالقانون ضد الشرعية الدولية ونحن لا؟ نجح الأمر نسبيا في جزيرة القرم، لكن حرب الاستنزاف في المستنقع الأوكراني تعدم أي أفق لتكرار السيناريو ذاته، ما يهدد روسيا بالتحول إلى أرنب سباق لمصلحة الصين التي تتحين الفرصة للانفراد بقيادة العالم.

الأكثر قراءة