تايوان من التميز في التصنيع إلى الابتكار
البحث والتطوير في الابتكار هو ما يقود إلى التميز والإبداع، حيث أصبحا من الأولويات الملحة والضرورات المهمة للتقدم بين الأمم، سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو العسكرية، بل أصبحت الجودة فيها أمرا مهما لاكتساب الثقة والمكانة المرموقة بين الدول المتقدمة، ومما لا شك فيه أن التقليد في التصنيع دون خطط وتطوير للعاملين لاكتساب المعرفة تكون مخرجاته محدودة وأقل جودة عند مقارنته بالنموذج الأصلي مهما كانت البراعة والإبداع في التقليد والمحاكاة.
وقد ذكرت في المقال السابق كيف أن الصين استطاعت تجاوز ذلك بالتزامن مع تقليد الصناعة واكتساب مهارة الاكتشاف والتدرج في التطوير والبحث في النماذج الغربية، ما أوجد لديها الحس الابتكاري، حيث استطاعت تعديل اقتصادها القائم على التصنيع بالتقليد ليصبح معتمدا وبشكل كبير على الابتكار وتحقيق مميزات تنافسية للوصول إلى الصدارة في ذلك من خلال الاستفادة من فتح المجال للشركات المتقدمة للتصنيع في الصين وتسهيل بناء مصانعها لديها، وكذلك الاستفادة من إبداعات مفكريها وعلمائها وباحثيها من خلال الشراكات والتعاونات الدولية في مجالات البحث والتطوير والابتكار ومن خلال الامتيازات التي وضعتها والاستفادة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي والأيدي العاملة منخفضة التكاليف، ما جعل كبرى الشركات العالمية وعلى مستوى العالم تجعل مقارها التصنيعية هناك، لتصبح دولة يشار إليها بين الدول كدولة صناعية كبرى في أعوام معدودة. وفي مقالي هذا سأتطرق لتجربة أخرى جديرة بالذكر والتأمل والاهتمام، وهي التجربة التايوانية في الابتكار التي استطاعت الخروج من نموذج التقليد في التصنيع إلى الابتكار وكيف استطاعت أن تنجح في ذلك.
في بداية الثمانينيات بدأت تايوان بالعمل على تحويل اقتصادها المعتمد على الأعداد الكثيرة من الأيدي العاملة في تقليد الصناعات الغربية واليابانية إلى أن تصبح قوة عالية التقنية بسبب التركيز على دراسة واستكشاف مكونات الصناعات المقلدة لديها، وكذلك الاستثمار في التعليم ودعم الابتكار وتشجيع المؤسسات المتوسطة والصغيرة. ففي عام 1980 كان إنتاج الصناعات المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات في تايوان يشكل أقل من 100 مليون دولار، ثم نما إلى أكثر من خمسة مليارات دولار، ثم زاد بأكثر من 20 في المائة سنويا في التسعينيات، وهي الفترة التي كان فيها نمو الناتج المحلي الإجمالي لتايوان يصل إلى 7 في المائة، أي: إلى نحو 21 مليار دولار عام 1999، وكذلك استطاعت في الأعوام اللاحقة أن تجعل اقتصادها يعتمد على المعرفة والابتكار، وأصبحت المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تشكل 98 في المائة من الصناعات التايوانية، وأصبحت تصنع أكثر من 90 في المائة من أجهزة الحاسوب المحمولة التي تباع في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك تلك التي تباع من قبل العلامات التجارية الكبرى مثل Apple وDell من خلال شركاتها مثل شركة كوانتا كمبيوتر Quanta Computer Company، كومبال مصنع الإلكترونيات التايوانية Compal Electronics: Taiwanese electronics manufacturer، وشركة Pegatron، وشركة Wistron، وشركة Inventec، وأصبحت تنتج أكثر من 80 في المائة من قطع الغيار لكثير من التقنيات والتكنولوجيا المتطورة على مستوى العالم، وأصبحت أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة الأمريكية ورابطا رئيسا في التكنولوجيا العالمية وسلاسل التوريد التصنيعية، وتمثل صادراتها ما يقارب 70 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي، وأصبحت تحتل المركز الـ21 بين أكبر الدول الاقتصادية في العالم، ففي عام 2021 بلغ الناتج المحلي 759.1 مليار دولار، كما صنفها المنتدى الاقتصادي العالمي في المرتبة الـ12 بين أكثر الاقتصادات تنافسية في العالم، وسابع اقتصاد في آسيا، وركزت على صناعات رئيسة مثل الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والبتروكيماويات والمنسوجات والصلب والآلات ومعالجات الأغذية والسيارات والأدوية، وأصبحت أكبر مصنع لأشباه الموصلات "الرقائق الإلكترونية" في العالم ممثلة في شركة Taiwan Semiconductor Manufacturing Co. أو TSMC، ويتم تصنيع 7 في المائة من الدوائر المتكاملة في العالم فيها، وتفوقت شركاتها لأعوام في الهواتف المحمولة وأجهزة الحاسوب وهندسة الإلكترونيات، وأصبحت تايوان تصنف على أنها تمتلك خامس أكبر إمكانات للابتكار الاقتصادي في العالم، وفقا لمؤشر جديد أصدرته "بلومبيرج" Bloomberg Economic.
ولعل نجاح هذه الدولة يكمن في فهمها لمفهوم الابتكار وعملها على تحقيقه، وساعدها على ذلك وجود رؤية واضحة وطويلة المدى وخطة استراتيجية ذات أهداف متعددة الجوانب لتحقيقها ومهارات التنفيذ المتقنة، حيث اهتمت بالتعليم والنشء وأوفدت أعدادا كبيرة للدراسة في مجالات التعليم التقني والمهني خارج البلاد لأمريكا وألمانيا وغيرها لتسلم دفة التصنيع في البلاد بعد عودتهم، وطورت جامعاتها لتنافس الجامعات الكبرى في مجال البحث والتطوير والابتكارات النوعية، وقد نجحت في ذلك، حيث بلغ معدل معرفة القراءة والكتابة في تايوان 98.5 في المائة، وتعد رابع أعلى درجات في اختبارات الرياضيات القياسية على مستوى العالم وفقا لمنظمة التنمية الاقتصادية Organization for Economic Development، وأكثر من 25 في المائة من جميع الشهادات الجامعية لديهم في الهندسة، وقررت استخدام مواهبها التكنولوجية والهندسية الهائلة للتركيز على مجالات الابتكارات النوعية في الواقع الافتراضي، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والذكاء والرعاية الصحية والخدمات اللوجستية الذكية والآلات الذكية والطاقة الخضراء والمدن الذكية، كما عملت مبادرات رئيسة يقودها مجلس التنمية الوطني في تايوان Taiwan's National Development Board، وهي الهيئة التنسيقية للاقتصاد والابتكار، وتشمل الاهتمام بالشركات الناشئة وريادة الأعمال وتطوير العلاقات مع هيئات الابتكار والبحث والتطوير العالمي ودعم ومساعدة الابتكارات الصادرة عن الجامعات والمؤسسات البحثية في الحصول على التمويل والتسويق والانتقال بسرعة أكبر إلى النماذج الأولية والاختبار ورفع ثقافة الابتكار والإلهام لدى الأطفال الصغار بطرق مرحة وشيقة وتسخير كل الإمكانات والوسائل الإعلامية وغيرها للقيام بهذا الدور المهم. إضافة إلى توفير وتهيئة بيئة استثمارية تنافسية جاذبة للمستثمرين لأصحاب الأموال المحليين أو خارج البلاد.
ولا شك أن من مستهدفات رؤية المملكة 2030 الاستفادة من جميع الموارد المختلفة لتحقيق التقدم والريادة على جميع المستويات الاقتصادية والدفاعية، ولعل تركيز الهيئات والمراكز البحثية والجامعات والهيئات التصنيعية على التقنيات الابتكارية النوعية، ودراسة النموذج التايواني في التركيز على صناعة أشباه الموصلات "الرقائق الإلكترونية" وصناعة الأجهزة الإلكترونية بمختلف مجالاتها ومساراتها والاستفادة من المبادرات والبرامج الوطنية التي وضعتها الدولة والعمل بشكل تكاملي، سيحقق لنا الجودة الإنتاجية والإبداع والتميز والابتكار بين مصاف الدول العظمى.