في الصيف .. «إيران» ضيعت اللبن

في الصيف .. «إيران» ضيعت اللبن
يمعن النظام في الدفع بالبلاد نحو الهاوية وحافة الإفلاس.
في الصيف .. «إيران» ضيعت اللبن
الدلائل تشير إلى أن حكومة رئيسي لا تملك أي خطة بديلة لتحسين الأوضاع.

ينطبق المثل العربي "الصيف ضيعت اللبن" الذي يضرب للرجل يترك الشيء وهو ممكن، ويطلبه وهو متعذر، على إيران هذه الأيام، غاية الانطباق، بعدما باتت حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي مهددة، وهي لم تكمل بعد عامها الأول في الحكم، بعد تزايد المظاهرات، ولا سيما الشهر الماضي، الرافضة للخطة الاقتصادية للحكومة الجديدة في إيران.
خطة، وجد إبراهيم رئيسي نفسه مجبرا على تنفيذها، حتى يجنب الدولة خطر الانهيار الشامل، على غرار ما حدث في لبنان، وحتى يكون نموذج الرئيس الذي يقتدي بأوامر وتعليمات المرشد الذي نصح الحكومة الجديدة، لحظة تشكيلها، بعدم رهن سياساتها الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، بفرص إحياء الاتفاق النووي، وما يتلو ذلك من رفع للعقوبات الأمريكية والغربية على طهران.
يوم بعد آخر، يدرك الرئيس الإيراني أن كلام المرشد الأعلى للجمهورية يصلح للدعاية والاستهلاك الإعلامي وحشد المؤيدين والأنصار، دون أي تأثير في الواقع المعيش، فالحسابات والأرقام والنسب تبقى الفيصل عند كل قرار أو خطوة أو إجراء. فكل الدلائل تشير إلى أن حكومة رئيسي لا تملك أي خطة بديلة لتحسين الأوضاع الاقتصادية المتفاقمة، ومواجهة الغضب الشعبي العارم، بعيدا عن مخرجات مفاوضات فيينا.
أوشك الطرفان على جعل الاتفاق النووي، مطلع آذار (مارس) الماضي، في متناول اليد، بعد تخلي واشنطن عن شرط اشتمال المفاوضات على برنامج إيران الصاروخي. حتى استبشر الإيرانيون خيرا بالأخبار القادمة من فيينا، فالتوصل إلى اتفاق سيجنب المجتمع الإيراني ويلات عقوبات دولية، يجد نفسه ضحيتها الأولى دون أن تكون له يد فيها.
قرر صناع القرار في المربع المحيط بالمرشد، تحويل الاتفاق النووي، لحظات ولادته، إلى سراب في رمال الصحراء، بعد تغيير أطراف المعادلة، باعتماد حسابات خاطئة، أساسها معادلة الحرب الروسية في أوكرانيا، التي انطلقت في 24 شباط (فبراير) الماضي، وما تلاها من عقوبات أمريكية وأوروبية غير مسبوقة على موسكو. معطيات أوحت إلى حواري المرشد بأن طهران في موقع قوة، ما جعلهم يتريثون، فدفعوا بشروط جديدة، لا وجود لها قبلا في مسودة الاتفاق، ولسان حالهم يردد "هذه فرصتنا فلنغتنمها".
راهن رجال المرشد على انعكاس العقوبات الغربية على أسواق النفط العالمية، بعدما اتخذت الأسعار منحى تصاعديا، مع توالي أيام الحرب، بسبب منع روسيا من ولوج أسواق الطاقة العالمية، وتحفظ دول الأوبك على زيادة الإنتاج. هكذا بدأ خبراء طهران يتحدثون عن النفط الإيراني المنقذ لأمريكا والعالم، وأن عودة النفط الإيراني إلى السوق العالمية باتت وشيكة. ما يعني استغلال هذه الفرصة الذهبية، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، فطالبت طهران واشنطن أولا بتقديم ضمانات تلزم الإدارات الأمريكية القادمة بمقتضيات الاتفاق. وثانيا برفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة التنظيمات الإرهابية في أمريكا.
نسي القابضون بزمام النظام في طهران أن السياسة هي فن الممكن، وأن الساسة الكبار لا يلعبون بأوراقهم دفعة واحدة. فحسابات إدارة بايدن، على الصعيدين الداخلي والخارجي، أشكل من المعادلة الصفرية للنظام الإيراني، فتدبير واشنطن للملف النووي الإيراني يبقى محكوما بمعركة الانتخابات النصفية المقبلة، ما يعني أن القبول بأي نقطة غير مرتبطة بالبرنامج النووي، من شأنها أن تكون ذات مفعول عكسي على الإدارة الأمريكية، فالحزب الديمقراطي لن يتحمل التكلفة السياسية لإسقاط تنظيم الحرس الثوري من قوائم الإرهاب.
استشعرت أمريكا الاستراتيجية الإيرانية في التفاوض مبكرا، فاتجهت نحو خصم عنيد مثل فنزويلا، لإعادة تأهيل صناعتها النفطية وزيادة الإنتاج، بدل الرضوخ لابتزاز إيران، رغم علمها المسبق بصعوبة الأمر بالنظر إلى المعطى الزمني اللازم لإعادة تأهيل المنشآت النفطية. كما يطلب الرئيس الأمريكي مساعدة الرياض، بالنظر إلى وزنها داخل مجموعة أوبك، من أجل التدخل لضمان تزويد أسواق الطاقة العالمية بالنفط الكافي لدوران عجلة الاقتصاد العالمي.
تمادي النظام الإيراني في استغلال مأزق بايدن النفطي، وعجز خبراء المرشد عن فهم تركيبة المعادلات السياسية في الداخل الأمريكي، جعلاهم يخسرون اتفاقا مثاليا مقارنة بالاتفاق الأصلي الذي انسحبت منه إدارة الرئيس ترمب في أيار (مايو) 2018. فقد عمدت إدارة بايدن، من باب التشجيع وإظهار حسن النوايا، إلى إزالة بعض العقوبات ذات الطابع التقني، بعدما فرضتها الإدارة السابقة. وتلتزم واشنطن برفع القسط الأكبر من 1500 عقوبة متصلة بالبرنامج النووي، علاوة على الإفراج عن الأرصدة والأموال الإيرانية المجمدة في مصارف حول العالم، بموجب تعميمات صادرة عن وزارة المالية الأمريكية.
يلمح العقلاء داخل النظام في إيران إلى ضرورة البحث عن سبل إحياء الاتفاق النووي، بشكل آني ومستعجل، فالعودة إلى الاتفاق النووي ورقة عبور نحو حاضرة النظام العالمي، والالتزام بقواعده هو السبيل الوحيدة للنظام، متى رغب في معالجة مشكلاته المزمنة وأعطابه البنيوية. في المقابل، يمعن المجانين داخل النظام في الدفع بالبلاد نحو الهاوية وحافة الإفلاس، بتجاهلهم كل الأزمات التي تعصف بالبلاد داخليا وخارجيا، والانشغال بدلا من كل ذلك بتعزيز الوجود العسكري الإيراني في سورية، وملء الفراغ الذي خلفه انسحاب وحدات قتالية روسية من سورية، نحو ساحات المعارك في إقليم دونباس الذي تسعى إلى السيطرة عليه في أوكرانيا.

الأكثر قراءة