كيف استطاعت سويسرا تصدر مؤشر الابتكار؟
من المعروف للأغلب منا أن سويسرا إحدى الدول الأوروبية التي يقصدها الناس للسياحة وتعد أروعها وأجملها، نظرا إلى ما تتميز به من الطبيعة الجذابة ووجود الأنهار والبحيرات والجبال والغابات، والموقع الجغرافي المميز، كذلك رغم أنها غير مطلة على بحار، فهي تقع في الجزء الغربي لقارة أوروبا بين كل من ألمانيا والنمسا وإيطاليا وفرنسا، كما تعد أفضل الدول التي تصنع أنواع الشوكولاتة على مستوى العالم، وتشتهر بكونها بلد صناعة أرقى وأجود الساعات، حيث تنتج أغلى أنواع الساعات في العالم وتعد مفخرة لكثيرين عند اقتنائها، لكن ليس ذلك فقط ما أكسبها تلك الشهرة، فهي تتربع على عرش الابتكار وريادة الأعمال والتجديد العالمي منذ 11 عاما، وحسب تصنيف مؤشر الابتكار العالمي لـ2021 (Global Innovation Index: GII)، الذي تصدره المنظمة العالمية للملكية الفكرية (World Intellectual Property Organization: WIPO)، إذ احتلت المركز الأول في ذلك برصيد 65.5 نقطة من 100 نقطة، ما جعلها تستحق لقب الريادة عالميا في مجال الابتكار. ولذا، فإن موضوع مقالي لهذا اليوم سيكون وباختصار، عن كيفية استطاعة هذه الدولة - التي لا تتجاوز مساحتها 41,285 كيلومتر مربع وثلثي هذه المساحة غابات وجبال وبحيرات، ولا تمتلك كثيرا من الموارد أو الثروات الطبيعية ولا يتجاوز عدد سكانها 8,72 مليون نسمة - الوصول إلى هذه المكانة العالمية في الريادة والابتكار بتجربة رائدة وفريدة، لتصبح من أغنى دول العالم ودخل الفرد فيها يعد الأعلى على مستوى العالم.
تعد سويسرا واحدة من أكثر الدول إبداعا وابتكارا في العالم، ولا شك أن هناك صفات متعددة في نظامها قادت هذا الأداء والنجاح المتميز والاستثنائي، ولعل من ذلك ظروفها لكونها بلدا محايدا، جعل من طبيعتها الاستقرار السياسي، وبدوره جعل هناك مجالا واسعا لصياغة وتنفيذ برامج اقتصادية طويلة المدى بشكل جيد، ومن ذلك أيضا سوق العمل فيها، حيث تعد من الدرجة الأولى لما تتسم به من المرونة والفاعلية في استقطاب المواهب والعمالة الماهرة والمدربة، والمدعومة بالاتفاقيات الثنائية بشأن حرية الحركة مع الاتحاد الأوروبي التي دخلت حيز التنفيذ 2002، وتميزها بوجود نظام حماية الموظفين ومصالح أصحاب العمل، حيث يعتمد على الحوار الاجتماعي في حل المنازعات، أو ما يسمى السلام الصناعيIndustrial Peace، بدلا من عملية الإضرابات، كما أن إنفاقها السخي على البحث والتطوير والابتكار واهتمامها المميز بالتعليم، جعل هناك جودة لمؤسساتها البحثية العلمية، إضافة إلى التعاون القوي الذي سمح بتطورها بين الأوساط الأكاديمية وقطاع الأعمال، هذا جنبا إلى جنب مع إيجاد بيئة للاستثمار في البحث والتطوير وحماية الملكية الفكرية. والجدير بالذكر أن عددا من جامعاتها احتلت ونافست على صدارة المراكز المتقدمة في قائمة أفضل 200 جامعة عالمية ضمن تصنيف التايمز للجامعات العالمية لـ2022، واحتلت بعض معاهد التقنية فيها مثل المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا في زيوريخ، والمعهد التقني الفيدرالي العالي في لوزان مكانة مرموقة في صدارة تصنيف الـ"كيو إس"QS: World University Rankings، لبعض التخصصات، وبالتالي أنتجت وأوجدت قوة عاملة ذات مهارات مهنية عالية تقود هذا التقدم، وامتلكت أعلى نسبة من طلبات براءات الاختراع على المستوى الأوروبي مقارنة بعدد السكان.
الابتكار هو أساس النجاح الاقتصادي، ولذا نجد أنها قدمت نظاما إداريا وبيئيا ممتازا لتعزيز الابتكار من خلال اعتمادها على ركائز أساسية وهي المستوى العالي للتعليم والاستثمارات الكبيرة في البحث والبنية التحتية القوية، والانفتاح والتعاون بين الشركات، يسمح للجامعات والشركات المبتكرة بالتعاون واستخدام نتائج أبحاثها لتطوير منتجات وخدمات جديدة قابلة للتسويق، وعملت على وضع محفزات لتوطين الشركات الأجنبية والمحلية والقطاع الخاص، ولذا أصبحت موطنا لعدة شركات ضخمة متعددة الجنسيات، وأصبح التصنيع أهم قطاع اقتصادي في الدولة، مشكلا أكثر من 40 في المائة من قيمة إجمالي الصادرات الوطنية، ويعتمد على تصنيع المواد الكيمياوية المختصة، والأدوية وأدوات القياس الدقيقة والآلات والإلكترونيات، وتتميز هذه المنتجات بالدقة والجودة العالية.
التعليم هو أساس الابتكارات وقوتها بشتى أنواعها، ولعل رؤية الابتكار السويسرية تكمن في أن الدولة اهتمت بإعداد المدارس والجامعات إعدادا جيدا مبنيا على مفهوم ومعنى الابتكار، ليس ذلك فحسب، بل وجهت تعليمها وأبحاثها لإيجاد منتجات وخدمات قابلة للتسويق وربط ذلك باقتصادها، وأوجدت منظومة متكاملة بستة مواقع على مستوى البلاد تعمل على إيجاد بيئة ابتكارية متطورة عن طريق التواصل الوطيد والمستمر مع الجامعات والشركات للوصول إلى ابتكارات ناجحة ذات قيمة اقتصادية واعدة، وتشرف عليها مؤسسة وطنية تحت مسمى مؤسسة سويسرا للابتكار The Switzerland Innovation Foundation، وهي المنظمة للابتكار السويسري، وتقوم بدعم هذه المواقع عن طريق إيجاد الحلول والضمانات التمويلية، والتسويق، وضمان معايير الجودة، وزيادة تطويره في سياق عمليات التحسين المستمر، والعمل التكاملي بين جميع أطراف المنظومة. كل ذلك، وبشكل جزئي، جعل منها دولة ذات أكثر الاقتصادات تنافسية في العالم.
ونحن اليوم نعيش في عهد الحزم والعزم نشاهد ونلمس اهتمام قيادتنا الرشيدة بالبحث والتطوير والابتكار من خلال القرارات التي تصدر تباعا باتساق وديناميكية تتلمس الفرص والاحتياجات وتسد النقص في الأنظمة المترابطة فيما بينها، وهذه حقيقة مشاهدة في هذه الفترة التي تعد بحق فترة الازدهار، حيث تم في فترة وجيزة إنشاء وإصدار عديد من التشريعات وتمت معالجة كثير من الأنظمة التي تزيد من الفاعلية والنشاط للهيئات المختصة بالابتكار، منها إنشاء هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار، والهيئة العامة للتطوير الدفاعي، والدعم غير المحدود الذي تشهده الجامعات لدعم البحث العلمي والتطوير، والشراكات التعاونية بين المراكز البحثية العالمية، كل هذا سيوجد الفرص للمنافسة على الصدارة في هذا المجال. ولذا، أرى الاستفادة من دراسة التجربة السويسرية وتطبيق بعض مكوناتها في استقطاب الباحثين والمبدعين والأيدي المهنية الفنية التقنية العاملة، وتكامل المنظومة التعليمية في المدارس والجامعات والكليات ومراكز التدريب والشركات ودعمهم من خلال الهيئات لإيجاد بيئة ابتكارية واعدة، وبالتالي تحقيق مكانة اقتصادية ودفاعية عالمية مستحقة.