يسار جديد يحاصر واشنطن في أمريكا اللاتينية

يسار جديد يحاصر واشنطن في أمريكا اللاتينية
يسار جديد يحاصر واشنطن في أمريكا اللاتينية

تتوالى القلاع اليمينية في السقوط تباعا في أمريكا اللاتينية، وكانت آخرها كولومبيا التي عدت على الدوام استثناء في القارة. فقد تداولت على رئاسة الدولة، وعلى مدى قرنين، أسماء من عائلات أرستقراطية يمينية الانتماء، وأحيانا اليمين المتشدد أمثال الرئيس ألفارو أوريبي بيليث "2002 - 2010"، حتى قيل إن بوجوتا وكيل إقليمي للولايات المتحدة في المنطقة.
شكل اقتراع الأسبوع الماضي محطة مفصلية في التاريخ السياسي لغرناطة الجديدة، بالنظر إلى الانتماء السياسي الحالي للرئيس الجديد، جوستافو بيترو الذي كسب الجولة الثانية، بنسبة أصوات تجاوزت 50 في المائة، أكثر من 11 مليون صوت، في دولة معروفة بتركيبتها الاجتماعية المحافظة. وقبل ذلك، التاريخ السياسي للرجل، الذي كان عضوا بارزا في حركة "19 أبريل" اليسارية، في سبعينيات القرن الماضي، وإحدى نتائج عملية إدماج المقاتلين، في المشهد السياسي في كولومبيا.
كانت كولومبيا استثناء في قائمة الدول الـ19 المكونة لأمريكا اللاتينية، بالولاء للأحزاب اليمينية بمختلف توجهاتها، ثم التمسك بالانتخابات الديمقراطية التي أضحت راسخة في الدولة، عكس ما يحدث في دول مجاورة من انقلابات عسكرية. لكن هذا الاستقرار السياسي وما رافقه من التداول السلمي على السلطة، ظل مهددا بعنف الميليشيات اليسارية المسلحة التي خلفت مواجهتها موت مئات الآلاف من المواطنين، وزجت بالدولة في حرب أهلية طاحنة.
وقعت الحكومة الكولومبية 2016 اتفاق سلام مع حركة فارك "قوات كولومبيا المسلحة الثورية" الجناح العسكري للحزب الشيوعي الكولومبي، وقررت قبلها حركة "19 أبريل" M-19 - التي ولدت رفضا لتزوير رئاسيات 1970، واشتهرت بسرقة سيف مؤسس كولومبيا "سيمون بوليفار"، من أجل التأكيد على ولادة انتفاضة مدنية ضد النظام غير العادل - الاندماج في العملية السياسية بالتحول إلى حركة سياسية يسارية "التحالف الديقراطي إم 19"، معلنا القطيعة مع الخيار المسلح.
يعد جوستافو بيترو، الرئيس الجديد المقاتل القديم، من قادة هذه الحركة الذين نجحوا في التأقلم مع الحياة الديمقراطية، بتوليه رئاسة بلدية العاصمة بوجوتا أولا، وثانيا بانتزاعه مقعدا في مجلس الشيوخ، وأخيرا بدخوله سباق التنافس على الرئاسة ثلاث مرات "2010 و2018 و2022"، ليكون الفوز من نصيبه بتحالف يساري باسم "العقد التاريخي"، بعدما وعد باعتزال العمل السياسي في حال خسارته.
يتطلع الكولومبيون إلى هذا الفوز، ليشكل نقلة نوعية في دولة عانت ويلات اللا استقرار، التي خولت النخب اليمينية المحافظة فرص الهيمنة على مفاصل الدولة. يبدو أن الرجل يعي جيدا حجم التطلعات والرهانات، ما جعله يطلق رسائل، إلى أكثر من جهة، في خطاب الفوز. فقد أكد عزمه على إحداث توافق وطني واسع، يفتح المجال أمام إصلاحات كبرى، تعزز السلم الأهلي، وتكرس المساواة والعدالة الاجتماعية، وتراجع النظام الضريبي، وتحد من الملكية العقارية غير المنتجة، وتعيد الاعتبار للجماعات الأصلية في الأرياف.
أبناء أمريكا اللاتينية بدورهم يتطلعون إلى انتصار الرجل باعتباره حلقة من حلقات عودة اليسار، فالقارة على موعد مع دورة يسارية جديدة، انطلقت قبل أربعة أعوام بوصول أندريس لوبيث أوبرادور إلى السلطة في المكسيك "2018"، تلاه فوز ألبرتو فيرنانديث في الأرجنتين "2019"، ثم لويس آرثي في بوليفيا "2020"، وكل من بيدرو كاستيو في البيرو، وزيومارا كاسترو في هندوراس، وغابرييل بوريك في تشيلي "2021". ويتطلع هؤلاء إلى اكتمال الدورة تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، متى نجح الرئيس البرازيلي الأسبق لولا دا سيلفا في العودة إلى السلطة، بكسبه الاستحقاق الانتخابي المقبل.
يرى كثيرون في المد اليساري فرصة مواتية لإقامة كتلة يسارية تقدمية وازنة، تعيد النظر في أولويات المنطقة في ضوء موازين القوى ومصالح الشعوب. من شأن السعي نحو ترجمة هذه الفرضية على أرض الواقع، أن ينقلب معضلة كبرى في الولايات المتحدة، التي طالما عدت أمريكا اللاتينية حديقة خلفية لمصالحها. وقد يزداد الأمر تعقيدا مع التطورات التي يعيشها العالم، فموسكو "أوكرانيا" وبكين "تايوان" تبحثان بجدية عن مواقع تزاحمان فيها النفوذ الأمريكي.
انطلقت الحرب الكلامية ضد واشنطن مبكرا، فقد غرد الرئيس البوليفي السابق إيفو موراليس، رئيس الحزب الاشتراكي الحاكم في بوليفيا، والقادم وراء الكواليس، معلقا على صعود اليسار في أكثر من دولة بقوله "في بيرو وتشيلي وكولومبيا، الدول التي ترعاها إمبراطورية أمريكا الشمالية كنموذج للرأسمالية، نرى ثورات ضد الليبرالية الجديدة".
خلط وجود اليسار في الحكم في كولومبيا أوراق صناع القرار في واشنطن، فالمعقل الكولومبي يمثل موقعا استراتيجيا لا تحظى به أي دولة أخرى في القارة، متاخم للكابوس المزمن فنزويلا، وله حدود مع البرازيل والبيرو وبنما، ويتميز بواجهتين بحريتين على المحيط الهادي والبحر الكاريبي. أضحى كل هذا في خبر كان، وصارت فرص الوجود الروسي في هذه المنطقة أقرب من أي وقت مضى، أو على الأقل التهديد له لوقف دول في القارة من استقبال قواعد عسكرية أمريكية.
يفترض المتحمسون للمد الثوري الجديد في القارة أن اليسار في أمريكا اللاتينية على قلب رجل، وهذه مغالطة كبيرة. صحيح أن موجة ثانية لليسار ظهرت، وعلى عكس الموجة الأولى "2000 - 2010"، تبدو هذه المرة أكثر قوة وشكيمة. لكن البون شاسع بين الفريقين، فالتيار الأول يسار سلطوي، أيديولوجي قومي متشدد "هوجو تشافيز، إيفو موارليس، نيكولاس مادورو، نيستور كيرشنر، رافائيل كوريا..."، بينما الثاني يساري تقدمي ديمقراطي اجتماعي "لولا داسيلفا، تاباري فازكيز، غابريل بوريك...".
يبدو واضحا أن قادة اليسار الديمقراطي التقدمي الجديد عازمون على تجاوز أعطاب اليسار الأيديولوجي، في ظل تنامي الوعي بضرورة الأخذ بمبادئ الديمقراطية والتداول على السلطة، واحترام التعددية الفكرية والسياسية، والابتعاد عن النزعة السلطوية والشعبوية التي طبعت اليسار التقليدي. فالعدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي ومحاربة الفساد والوفاء للديمقراطية أضحت مطالب ملحة لدى شعوب القارة، قبل مناصبة العداء للإمبريالية العالمية، والسعي إلى تكريس ديكتاتوريات محلية، بمبرر مواجهة النفود الأمريكي في المنطقة.
يعد الرئيس البيروفي بيدرو كاستيلو مثالا لقادة اليسار الجديد، فالرجل كان، حتى وقت قريب، من أشد المعجبين بالرئيس الفنزويلي الراحل هوجو تشافيز، قبل أن ينقلب الآن ضد خلفه نيكولاس مادورو الذي يؤلب بسياسته الشعوب ضد قيم ومبادئ الفكر اليساري. واتهم اليساري الثائر دانيال أورتيجا رئيس نيكاراجوا بتحويل حلم التحرير في الدولة إلى ديكتاتورية الموز.
مواقف وأخرى تؤكد صعوبة الحديث عن يسار متجانس داخل القارة من المكسيك إلى الشيلي، لكن التحاق البرازيل قريبا بصف اليسار، يعني وجود عملاقين يساريين "البرازيل والمكسيك" يقودان المشروع القومي العابر للحدود في أمريكا الجنوبية، ألا وهو الحد من النفوذ الأمريكي في القارة. ويرجح أن يسرع التكتل اليساري، القديم والجديد، من عملية الاندماج الإقليمي في ربوع القارة، ويعزز من استقلالية المنطقة في اتخاذ القرار بعيدا عن واشنطن.

الأكثر قراءة