إفلاس الدول .. أحد ارتدادات الجائحة والحروب

إفلاس الدول .. أحد ارتدادات الجائحة والحروب

لم تمهل الحرب الروسية الأوكرانية العالم حتى يلتقط أنفاسه من تداعيات جائحة فيروس كورونا، فأتت الأولى على ما أبقته الأخيرة من توازن مسببة أزمات حادة، أعادت إلى دائرة الأحداث ظاهرة إفلاس الدول. فقبل أسابيع، أعلن رانيل ويكرمسينج رئيس وزراء سيريلانكا الانهيار الكلي لاقتصاد البلاد، وعجز الدولة عن سداد مستحقات وارداتها من المواد الأساسية، فضلا عن تعليق أداء جميع الديون الخارجية، لتلتحق بكل من لبنان والبرازيل في قائمة الدول التي أعلنت إفلاسها آخر عامين.
بدأت الأزمة السيريلانكية مع جائحة كورونا التي أدت إلى انخفاض كبير في عائدات السياحة والتحويلات المالية للمهاجرين، فقد انخفض الاحتياطي النقدي الأجنبي، خلال ثلاثة أعوام، من 7,5 مليار دولار إلى 3,1 مليار دولار. ودخل 1/5 من السكان تحت خط الفقر، بحسب البنك الدولي الذي وصف الأزمة بأنها "نكسة ضخمة تعادل خمسة أعوام من التقدم". وجاءت وقائع الحرب لتزيد الوضع سوءا، حيث ارتفاع أسعار السلع الأساسية من غذاء وطاقة إلى مستويات قياسية.
قررت الحكومة، منتصف الشهر الماضي، تقليص مدة دوام العاملين في القطاع العام إلى أربعة أيام في الأسبوع فقط. إجراء ترمي من ورائه تقليل استهلاك الوقود في البلاد، بخفض حركية الموظفين أولا. وتشجيعهم ثانيا على زراعة المواد الغذائية، من أجل التخفيف من تكلفة الاستيراد، خاصة بعد اضطرار الحكومة السيريلانكية إلى الاقتراض، قصد شراء المواد الغذائية لإخماد فتيل الاضطرابات. يذكر أن حجم الديون الخارجية بلغ 51 مليار دولار، منها ما يزيد على سبعة مليارات مستحقة هذا العام وحده.
سيريلانكا ليست أول ولن تكون آخر دولة تعلن إفلاسها، فنحو 50 في المائة من دول أوروبا، و40 في المائة من دول إفريقيا، وتعدت النسبة 30 في المائة في دول آسيا، خلال القرنين الماضيين. وتتصدر الإكوادور قائمة هذه الدول بإعلان إفلاسها عشر مرات، متبوعة بالبرازيل والمكسيك والأوروجواي والتشيلي وكوستاريكا وإسبانيا وروسيا تسع مرات، خلال القرنين الماضيين. وفي الدول المتقدمة تحتل ألمانيا الصدارة بإعلان الإفلاس ثماني مرات، ثم الولايات المتحدة الأمريكية خمس مرات، فالصين وبريطانيا أربع مرات. وفي الحقبة الراهنة أعلنت روسيا إفلاسها 1998، والأرجنتين 2001، والأوروجواي 2003، والدومنيكان 2005، والإكوادور 2008.
كيف يمكن للدولة أن تكون مفلسة؟ وهل يكون إفلاس الدول على غرار إفلاس الشركات والأشخاص؟ وما التداعيات المترتبة عن قرار الحكومة إفلاسها؟ وهل تصريح دولة معنية بواقعة الإفلاس جرأة أم مغامرة؟ ثم أي مصير ينتظر الدولة المفلسة؟ وهل تعامل الدولة في هذه الحالة، معاملة الأشخاص الذاتية -الأفراد- والأشخاص المعنوية -الشركات-؟
يمكن للحكومة أن تعلن واقعة الإفلاس، عندما تكون الدولة عاجزة عن سداد ديونها السيادية، وغير قادرة على الوفاء بباقي التزاماتها المالية الأخرى -أداء الرواتب والأجور، دفع أثمان المستوردات من بضائع وسلع ...-، يسبق كل ذلك انخفاض حاد في سعر صرف العملة المحلية، وارتفاع في معدل التضخم، وانهيار للقدرة الشرائية، كما حدث في لبنان أخيرا.
يبقى معيار وصول الدولة لمرحلة الإفلاس الفعلي، هو عجزها عن سداد الديون وفوائدها وقت الاستحقاق. فلبنان حاليا ترزح تحت أحد أكبر الديون في العالم، تصل إلى 100 مليار دولار، منها نحو 62 مليار دولار دين محلي، وأزيد من 38 مليارا دين خارجي بالعملات الأجنبية. تجاوزت بهذا الرقم الأرجنتين التي بلغت ديونها 81 مليار دولار عام 2001، ليعلن الرئيس أدولفو رودريجيز الإفلاس بعد دخول البلد فوضى نتيجة قرار الحكومة ربط العملة المحلية -بيزو- بالدولار، دون امتلاك القدرة على مواكبة نمو الاقتصاد الأمريكي.
استطاعت عدة دول الإفلات من شراك الإفلاس، فداخل نطاق اليورو مثلا حصل كل من المجر ولاتفيا ورومانيا عام 2008، على مساعدات مالية من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، من أجل إعادة ضبط الإيقاع وتدارك الخلل قبل فوات الأوان. وقد نجحت في ذلك، فالمجر التي انتزعت موافقة لتلقي 20 مليار يورو، اكتفت باستخدام مبلغ تسعة مليارات بعد أن نجحت الدولة في تنفيذ سياسية تقشفية كبيرة. وتلقت لاتفيا بدورها 7.5 مليار من صندوق النقد الدولي، نظير الانضباط لخطة تقشفية واسعة.
الإعلان الرسمي لواقعة الإفلاس يضمن للدولة الإفلات من قبضة الدائنين، لكن هذا القرار الجريء عادة ما يكون مكلفا داخليا وخارجيا. بدءا بفرض أسواق رأس المال معدلات اقتراض عقابية أو ترفض إقراض الدولة مجددا عقابا لها على التخلف عن السداد. مرورا بتخفيض وكالات التصنيف الائتماني الدولية تصنيف الدولة المفلسة الائتماني، أو على الأقل إصدار تحذيرات بشأن الاستثمار فيها. ويصل الأمر أحيانا إلى درجة إجبار الدولة على نقل قوتها وقدرتها السيادية المحلية إلى جهات عالمية، لتتمكن الجهات الأجنبية والمقرضون من التحكم تماما بالاقتصاد لضمان تحصيل الديون.
ويحدث أن يسعى الدائنون إلى إنزال الدول منزلة الأشخاص -الأفراد أو الشركات- بالعمل على وضع اليد على أصول الدولة المفلسة، الموجودة خارج أراضيها، مثلما حدث للأرجنتين، عام 2012، حين تم الاستيلاء على سفينة تدريب بحري كانت مستقرة في دولة غانا. أو ما تتولى الصين تنفيذه حاليا، باسم "دبلوماسية القروض"، حيث تعمد إلى الاستيلاء على ممتلكات الدول العاجزة عن السداد.
أخيرا، نجحت بكين في الاستحواذ على مطار عنتيبي الدولي بعد فشل الحكومة الأوغندية في تسديد قرض لها عام 2015، وقبل ذلك وضعت اليد على ميناء هامبانتوتا في مقاطعة هامبانتوتا جنوب البلاد، لمدة 99 عاما، بعد عجز الحكومة عن سداد القرض الصيني. السناريو ذاته تكرر مع ميناء عوادار الباكستاني الذي ستتولى الصين استغلاله 40 عاما، نظير عدم قدرة الحكومة الباكستانية عن الأداء.
في غمرة الانشغال بيوميات الحرب، تكثرالتقارير المحذرة من تفجر حالات إفلاس الدول في الأشهر المقبلة، بسبب تبعات الحرب الروسية الأوكرانية، وارتفاع نسب الدين العام، وعجز الحكومات عن سداد الديون. وهناك اليوم أحاديث عن عدم قدرة ست دول على مواجهة ديون اقتصاداتها الناشئة، وطلبت مساعدة عاجلة من المؤسسات المالية الدولية -البنك وصندوق النقد الدوليان-، لمواجهة شبح إفلاس تلوح معالمه في الأفق.

الأكثر قراءة