اليابان ممتعة للدراسة
اليابان دائما ممتعة، خاصة للمراقبين الاقتصاديين على أكثر من صعيد، فهي أول دولة غير غربية تلحق بالغرب وتنافسه اقتصاديا واستعماريا، ما سبب صداما انتهى بهزيمة اليابان واحتلالها مدة سبعة أعوام إلى أن استقلت في 1952. وهي الدولة الأولى التي اختارت أن تكون الاختبار الأول لتكاثر كبار السن، وفي الوقت نفسه عدم الاستعداد لقبول مهاجرين، ساعدها على ذلك أنها جزيرة بعيدة، كذلك رحلتها الاقتصادية الحديثة من كونها بلدا صناعيا متكاملا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، إلى أن وصلت إلى تحولات مهمة في الثمانينيات، انتهت بأطول ركود عالمي مع المحافظة على مستوى معيشة عال ممثلا بحصة الدخل القومي للفرد. وأخيرا في خياراتها في ميدان السياسة النقدية والمالية. جاءت هذه الخواطر في بالي على أثر انخفاض الين مقابل الدولار عند أدنى مستوى في 24 عاما الأخيرة، وتذكرت أول رحلة عمل لليابان حين كان الدولار يعادل 225 ينا في أواسط الثمانينيات. مرت اليابان برحلة ممتعة، على الأقل للمراقب الاقتصادي، بدأت على أثر ما عرف باتفاقيات بلازا على اسم فندق في نيويورك، وانتهت برفع الين مقابل الدولار وكسر حاجز 85 ينا مقابل الدولار، وما تلاه من انفجار فقاعة الأسهم والعقار في 1989.
الحالة الجديدة ربما تسهم في تغير جديد في اليابان بسبب تزامن عدة تحديات، فسكان اليابان بدأوا بالانخفاض على المطلق بعد أن بلغت نسبة النمو أقل بكثير من نسبة الاستبدال 2.1. ضعف النمو الاقتصادي لأكثر من ثلاثة عقود، وتآكل القدرات التصنيعية بعد موت الرواد، خاصة ملاك الشركات العائلية الصغيرة التي تشكل عروق وأوعية الأعصاب التي تغذي العمود الفقري للشركات الكبيرة، وعدم رغبة الأبناء في مواصلة المهام، واستمرار انتقال الصناعة إلى دول آسيا، خاصة الصين. وارتفاع الدين العام بعد عدة برامج تحفيزية متكررة إلى أن تعدى أكثر من ضعف الدخل القومي الإجمالي، علما بأن أغلب الدين مقوم بالين، لذلك ليس على اليابان الضغط نفسه الذي تعانيه الدول النامية. وأخيرا الضغوط التضخمية الأخيرة، خاصة أن اليابان اضطرت إلى تقليل توظيف الطاقة الذرية بعد الحوادث هناك. انخفاض الين كان مرحبا به لدى السلطات لدعم التصدير، لكن الانخفاض الحاد، وارتفاع أسعار الطاقة، والتضخم المستورد، مثل الطعام ومواد الخام، جاءت بوضع اقتصادي جديد. السياسة النقدية التوسعية والمالية المتوسطة نجحت أخيرا في الوصول بالتضخم إلى 2 في المائة، وتحسنت ربحية الشركات بعد أن استطاعت التكيف مع الظروف الجديدة. تزامن التضخم العالمي الجديد مع انخفاض الين وتزايد العجز التجاري، ونهاية المطاف مع أطول سياسة نقدية توسعية بين الدول الرئيسة اقتصاديا، يدل على أزمة مختلفة وضعف هيكلي، وليس ظاهرة عابرة.
جاء اغتيال رئيس الوزراء السابق شنزو آبى، ليضيف مزيدا من التعقيد، لأن نفوذه السياسي ما زال موجودا كزعيم لأكبر فريق في الحزب الحاكم. هذه الظروف قادت إلى تقليل مساحات المناورة لصناعة القرار، لكن تجانس اليابانيين وتجربتهم وصبرهم في الأغلب ستسعفهم. أغلب ما ذكر هنا عن الاقتصاد وإدارته، لكن أعتقد أن التجربة اليابانية فريدة ومتميزة اجتماعيا وسياسيا، فحزب واحد يحكم اليابان منذ الاستقلال عدا فترة قصيرة جدا. لعل السؤال: هل الظروف العالمية، خاصة الجيوسياسة وأيضا الاقتصادية والسكانية، تسمح باستمرار التكيف الاقتصادي عند مستوى عال، أم تجبرهم على تغير مؤثر؟ لا أعرف، لكن ربما هناك تغير في الأفق.