العقوبات الاقتصادية .. «سلاح يجرح حامله»
اهتدت الدول إلى اعتماد العقوبات الاقتصادية لكسب المعارك بديلا عن الأسلحة والجيوش، لما يوفره هذا السلاح من فرص وإمكانات لمستخدمه لحسم الصراع لمصلحته بأقل الخسائر. أصول الفكرة قديمة قدم داء الحروب في التاريخ البشري، إذ كان الحصار الاقتصادي، كما يعرف في كتب التاريخ أداة من أدوات كسب الأمم للحروب والمعارك.
ظهر سلاح العقوبات بشكله الحديث في الحرب العالمية الأولى، بعدما اهتدى كل من فرنسا وألمانيا إلى فرض عقوبات على أعدائهما. وكان لقاء الزعماء الأوروبيين في مؤتمر باريس للسلام 1919، محطة مثالية للترويج لهذا السلاح بين قادة العالم، لدرجة أن عصبة الأمم، هيئة دولية حديثة النشأة بموجب معاهدة فرساي، وافقت على استخدام سلاح الحصار الاقتصادي لردع الدول المهددة للسلام العالمي.
أحصى الخبراء 174 حالة استخدام لعقوبة الإكراه الاقتصادي في القرن الـ 20، منها فقط 20 حالة شرعية من وجهة نظر القانون الدولي، بمعنى أن استعمال السلاح كان تحت مظلة هيئة الأمم المتحدة. أما باقي الحالات فكانت بقرارات أحادية الجانب، ما يجعلها مفتقدة للشرعية الدولية. وجاءت الولايات المتحدة الأمريكية في مقدمة مستعملي هذا السلاح "109 مرات"، متبوعة بالمملكة المتحدة "16 مرة"، فالاتحاد الأوروبي "14 مرة"، ثم روسيا أو الاتحاد السوفياتي "13 مرة".
تعد الولايات المتحدة الأمريكية أكثر الدول استعمالا لسلاح العقوبات الاقتصادية على مدار القرن الماضي، حتى بات الإكراه الاقتصادي أداة رئيسة من أدوات عمل السياسة الخارجية الأمريكية، بسبب انخفاض إمكاناتها في التدخل العسكري، لتظل بذلك السلاح الوحيد في يد واشنطن. يبقى السؤال عن جدوى وفعالية هذه السلاح مطروحا؟ ويتجدد راهنا مع إمعان روسيا في مواصلة المعارك بمختلف جبهات القتال في أوكرانيا، رغم توالي حزمات العقوبات الأمريكية الأوروبية على موسكو.
تاريخيا خلفت العقوبات الاقتصادية الأمريكية تأثيرات عميقة في النظام الدولي طيلة القرن الماضي. لكن التجارب أثبتت محدودية فعاليتها في إحداث التغيير المنشود في أعين صناع القرار في واشنطن. ويحدث أن يأتي بنتائج عكسية تماما، فكوبا على سبيل المثال نجحت في هندسة اقتصاد كوبي، صنع مناعة ضد عقوبات أمريكية دامت 60 عاما دون أن يكسب الأمريكيون شيئا من هافانا.
تفيد توقعات بتكرار روسيا للسيناريو ذاته مع اختلاف في التفاصيل، فقد شرعت منذ عام 2014، بعد تجميد الأصول المالية، وتشديد الإجراءات الدبلوماسية خلال الأزمة الأولى في البحث عن بدائل تقيها حدة سيف العقوبات، وتمنح الدولة الروسية حماية من سلاح يهدد عصب الحياة في الدولة، فطورت قطاعات صناعية وزراعية بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي، ونسج علاقات دبلوماسية مع الدول بمنطق الربح المتبادل لا ميزان الابتزاز الغربي.
يكتشف المتابع لتصاعد هستيريا العقوبات الغربية على روسيا التي امتدت لتشمل مجالات غير مسبوقة حيث انتقلت من الاقتصاد والدبلوماسية لتعم الرياضة والثقافة والفنون، لتستحق بذلك صفة الروسوفوبيا، أي الخوف المرضي من روسيا، أكثر من كونها مجرد عقوبات أن المعسكر الغربي يدرك أيما إدراك صعوبة تحقيق العقوبات غاياتها، بفعل تطوير روسيا مناعة ضد سلاح الإكراه الاقتصادي أولا. وثانيا، لطبيعة النظام الاقتصادي العالمي المعولم، فشواظ العقوبات لن تنجو منه روسيا ولا أمريكا، فالعولمة تصدر المغانم كما المغارم لا فرق في ذلك.
يعزز واقع الاقتصاد الروسي بعد مضي أشهر على دخول العقوبات حيز التنفيذ هذا الأمر، فالاقتصادي جيرارد ديبيبو الباحث في المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والدولية يعد تأثير العقوبات في الاقتصاد الروسي سيكون بقدر تأثيرها في الاقتصاد الغربي ومن خلاله الاقتصاد العالمي. وقد أثبت ارتفاع أسعار المواد النفطية وبعض المواد الغذائية صحة هذا القول، فمعظم دول العالم بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، تضررت من فرض العقوبات على روسيا.
وضع أجبر دولا عديدة عن الاصطفاف بعيدا عن الموقف الأمريكي الأوروبي، ولو بطريقة خجولة، برفض الانخراط في حملة الحصار الاقتصادي، خاصة أن الأمر يتعلق بمسألة حيوية مثل الغاز والقمح. فرغم انخفاض إنتاج النفط الروسي في شهر أبريل سجلت عائدات النفط والغاز ارتفاعا بنسبة 80 في المائة، بعد أن صارت الصين والهند المشتريين الرئيسين للنفط الروسي المنقول بحرا، مع استفادة المستوردين للخام الروسي من خصم 35 دولار للبرميل، ما يجعله في وضع تنافسي مثالي مقارنة بلهيب أسعار النفط العالمية منذ بدء الحرب.
تشجيع دفع الهند التي كانت تستورد يوميا 84 ألف برميل نفط خلال عام 2021، وهذا يمثل فقط 2 في المائة من الاحتياجات اليومية التي اكتفت شهرا واحد قبل الحرب 30 ألف برميل فقط، نحو شراء بمعدل مليون برميل نفط كل يوم، منذ شهر يونيو. هكذا أضحت الهند مصبا مهما لاستيعاب الفائض الذي خلفته مقاطعة أوروبا للنفط الروسي.
تتحدث منابر إعلامية أوروبية بوضوح عن أن الصدمة الأولية للعقوبات قد تبخرت بعدما نجحت مداخيل الطاقة القياسية في تخفيف وطأة الانهيار الاقتصادي الذي يراهن عليه الغرب لحسم المعركة على الأرض. نشير إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد تكلم بالوضوح ذاته حين حذر واشنطن والقوى الغربية من أنهم جزء صغير من العالم وليسوا العالم كله.
مقامرة الغرب بورقة العقوبات الاقتصادية كانت موجهة للاستهلاك الإعلامي داخليا أكثر من اعتبارها ورقة لعب في مواجهة مفتوحة، فاختيار هذا السلاح يأتي من باب: مكره أخاك لا بطل، لأن حلفاء واشنطن يدركون أن تفعيل سلاح العقوبات يعني الدفع بالعالم المأزوم أصلا من تداعيات جائحة كورونا نحو الهاوية، بعدما أيقن الكل حقيقة مقولة "العقوبات الاقتصادية سلاح يجرح حامله".